أدرج مرشد "الثورة الإسلاميّة" علي خامنئي لبنان في خانة الدول التي تشكّل "العمق الإستراتيجي" لإيران، معلنًا، في أحدث خطاباته:" قرّر الأميركيون شلّ دول الجوار، وهي العمق الاستراتيجيّ للجمهوريّة الإسلاميّة، قبل شنّ العدوان على إيران. قالوا إنّه يجب أن نطيح الدول الستّ، وهي العراق وسوريّا ولبنان وليبيا والسودان والصومال قبل مهاجمة إيران (...)، لكنّ سياسة إيران نجحت في كلّ من العراق وسوريّا ولبنان؛ مما أدّى إلى هزيمة أميركا في هذه الدول".

ولا يستعمل تعبير " العمق الاستراتيجي" في وصف الدول الأخرى، إلّا من يُبرّر احتلاله لها، كما هو حاصل حاليًّا، في تبرير روسيا لغزو أوكرانيا التي يريد منع "حلف شمال الأطلسي" من استعمالها لتعريض أمن روسيا للخطر، وفق دعاية الكرملين، وكما سبق أن برّر نظام السوري مواصلة تواجده العسكري في لبنان، على الرغم من مهلة الانسحاب التي فرضها "اتفاق الطائف"، وكما كان قد فعل النظام النازي، مبرّرًا اجتياحه لعدد من الدول المحيطة بألمانيا، بصفتها "المدى الحيوي" لها، وكما عاد وتصرّف "الاتحاد السوفياتي" في تبرير وضع اليد على دول أوروبا الشرقيّة.

ومن دون الحكم على هذه الأمثلة، سلبًا أو إيجابًا، فإنّ المعطيات المتصلة بكل دولة ترفع أو رفعت مبرّر "العمق الاستراتيجي" لحربها أو غزوها أو احتلالها، لا تنطبق على الواقعين اللبناني والإيراني، إذ إنّ لا حدود مشتركة بينهما، ولا ثروات طبيعيّة في لبنان تُعتبر حيويّة وضروريّة، ولا هو نقطة انطلاق للعدوان، ولا قامت فيه مراكز لإيواء المعارضين وتدريبهم وتسليحهم.

وعليه، وبالمعنى الكلاسيكي لمصطلح "العمق الاستراتيجي"، فإنّ إدراج الخامنئي للبنان في هذه الخانة، لا يقع في مكانه الصحيح. لهذا، ومن أجل فهم أبعاد موقفه-وهو الأخطر على الإطلاق-لا بدّ من اللجوء الى اعتماد معطيات أخرى، لتحديد مفهوم مصطلح "العمق الاستراتيجي".

وهنا تبرز مسألتان، لا يمكن التغاضي عنهما: الطموح الإمبراطوري الذي يجعل إيران تنظر إلى جغرافيّتها الافتراضية بطريقة مختلفة، والطائفية بصفتها تجمع هؤلاء الذين لا يجمعهم العرق أو اللغة أو التاريخ أو الجغرافيا.

وانطلاقًا من الرؤية الإمبراطورية، فإنّ إيران وضعت الكيان الإسرائيلي على تخومها، الأمر الذي يحوّل لبنان الى متراس متقدّم لها، ويجعله جزءًا من خطة توسعيّة وعسكريّة كبيرة جدًّا، ويلغي خصوصياته كدولة تتحكّم بمسار الأمور، لما فيه مصلحتها العليا ومصالح شعبها، في الحدّ الطبيعي من العيش الكريم.

ولم يكن ممكنًا ضمّ لبنان الى "الإمبراطورية الإيرانيّة"، لو لم تتوافر عوامل لها صلة بشريحة مهمّة من مواطنيه، وهنا يدخل العامل الطائفي، إذ إنّ إيران، وقبل أن تضم لبنان إلى إمبراطورتيها، سيطرت على الطائفة الشيعيّة، من خلال "حزب الله" الذي لم يبدأ نشاطه العسكري ضدّ إسرائيل، بل بتطويع الطائفة الشيعيّة، عندما أزال مفكريها العلمانيّين، بداية وأحكم قبضته على "حركة أمل" في حروب مشهودة، لاحقًا.

وعندما يُخصّص خامنئي نجاح السياسة الإيرانيّة في كل من لبنان وسوريا والعراق، لا يفعل ذلك عن عبث، فهو يؤشّر، بطريقة واضحة، إلى تأثير العامل الطائفي، ففي لبنان والعراق هناك الشيعة الذين تمّت السيطرة عليهم، من خلال الميليشيات التي طالما رعاها قائد "فيلق القدس" السابق قاسم سليماني، وفي سوريا هناك الطائفة العلويّة التي تحكم سيطرتها على النظام من خلال آل الأسد.

بطبيعة الحال، إنّ "حزب الله" ليس غافلًا عن ذلك، وأمينه العام حسن نصرالله سبق أن أعلنه على الملأ، عندما قال:
" مشروعنا الذي لا خيار لنا أن نتبنّى غيره، كوننا مؤمنين عقائديين هو مشروع الدولة الإسلامية وحكم الإسلام، وأن يكون لبنان ليس جمهورية إسلامية واحدة، وإنما جزء من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحق الولي الفقيه".

صحيح أنّ نصرالله عاد وأوقف هذه النوعيّة من التصريحات العلنيّة، نظرًا لانعكاساتها السلبيّة على مخطط تكريس هيمنة حزبه المسلّح على لبنان، بالنظر الى حاجته "المرحليّة" إلى قوى تنتمي إلى طوائف أخرى، لكنّ خامنئي، وفي ظلّ الصعوبات التي يواجهها نظامه، بفعل الثورة الشعبيّة المشتعلة ضدّه، منذ السادس عشر من أيلول/ سبتمبر الأخير، اضطر إلى إعلاء شأنها مجدّدًا، في محاولة منه لرفع معنويات الأجهزة الإيرانيّة المكلّفة بقمع الشعب، مهما كان الثمن.

إنّ هذه الأبعاد التي تسمح لخامنئي بإدراج لبنان ضمن "العمق الإستراتيجي" لإيران، خطرة للغاية، ليس لأنّها ستُبقي لبنان المستنزف حتى آخر نقطة دم فيه، في صراع إقليمي كبير خدمة لـ "الجمهوريّة الإسلاميّة الكبرى" التي تسلّط عيونها على دول خليجيّة محوريّة أهمّها المملكة العربيّة السعوديّة، فحسب بل لأنّها، في جوهرها، ومن أجل ديمومتها، تحتاج إلى تغيير وجه لبنان وتشويهه، أيضًا.