تُعقد في الرياض قمة صينية سعودية وكذلك مع قادة دول الخليج والدول العربية، فالرياض العاصمة التي اعتادت عقد مثل هذه القمم الكبرى تستقبل ضيوفها لبناء أفق جديد مع ثاني أكبر اقتصاد عالمي والدولة التي يمثل عدد سكانها حوالي 18 بالمائة من سكان العالم لكنها أيضًا الأعلى نمواً في ناتجها المحلي وكذلك الطلب على السلع، إضافة إلى أنها باتت ركيزة أساسية وأحد أهم القوى الاقتصادية بالعالم، بينما يحتل الوطن العربي قلب العالم جغرافياً ويمتلك ثروات هائلة في الطاقة والمعادن وسوقاً استهلاكياً ضخماً وعدد سكان يمثل 5 بالمائة من سكان العالم، لكن جغرافية وثروات العالم العربي تعد من الأهمية بما يجعل الصين تركز على بناء نموذج وعصر جديد للعلاقات مع العرب التي بدأت قبل 65 عاماً، لكن رغم ما شهدته من مد وجزر إلا أنها تعززت كثيراً لكن لم تصل إلى مرحلة التحالف الإستراتيجي وأيضًا لم تتراجع في وقت الجزر بسبب خلافات بين الطرفين لكن دائماً ما كان هناك رغبة حقيقة نحو تعميق العلاقة ونقلها لمراحل وثيقة تتعدى حدود التبادل التجاري إلى الشراكات والانتقال السلس للاستثمارات لكي تكون الفائدة أكبر للشعبين العربي والصيني.

فبكين تعد اليوم أول دولة بحجم تجارتها مع العالم والأسرع نموًا بطلب السلع و30 بالمائة من رافعات الموانئ بالعالم في الصين بينما 35 بالمائة مما يصنع بالعالم يأتي من الصين أيضاً، لكن الأهم هو التسارع بتطورها التكنولوجي، فقد باتت بعض جامعاتها من الأفضل عالمياً ولديها مراكز بحث متقدمة وهي ثاني دولة في الإنفاق على البحث العلمي إضافة إلى أنها تقود مبادرة أطلقتها منذ العام 2013م، وهي الحزام والطريق والتي تمر جغرافياً بالعالم العربي، وهي المبادرة الأكثر استقطاباً للدول لتعزيز التجارة والشراكات الدولية، ووصل عدد من انضموا لها 69 دولة تقريباً من مختلف القارات إضافة لإنشاء مؤسسات مالية ضخمة تدعم تمويل المشاريع في الدول التي تنضم لها وأيضاً أطلقت الصين مبادرات عدة تدعم التنمية العالمية بما يهدف إلى تقليص الفجوة بين دول الجنوب والشمال بالعالم، أي نهاية هذا التفوق والتقدم والهيمنة الغربية المطلقة على العالم، وتسعى الصين أيضًا لتعزيز علاقتها بالعالم العربي ليرتفع حجم التجارة والشراكة معه، فالتجارة البينية العربية الصينية يبلغ حجمها 330 دولار أميريكي 26 بالمائة منها مع السعودية، ومن هنا يأتي الثقل السعودي بالعلاقة مع الصين إضافة إلى أن المملكة هي القوة الوحيدة القادرة أن تجمع العرب على طاولة واحدة مع القوى الكبرى بالعالم بحكم علاقاتها وثقلها الدولي الكبير، حيث سبق أن عقدت قمة أميريكية عربية وكذلك مع دول العالم الإسلامي، فالسعودية تنظر بعين بصيرة للتطورات الحالية وتقرأ التوجهات المستقبلية التي تجري بالعالم وتهدف لجمع كلمة العرب وتوحيد مواقفهم في الإطار العريض لعلاقاتهم مع القوى الكبرى لتحقيق أفضل فائدة ممكنة لكل الأطراف والانتقال لمزيد من الاستقرار بالمنطقة والتوجه للبناء والتنمية، وأن يكون العالم العربي ندّاً لتلك القوى بما يملكه من إمكانيات وثروات ومحافظاً على مصالحه بعيداً عن التجاذبات السياسية التي تهيمن على العالم بسبب التنافس بين الأقطاب الدولية قديمها وجديدها.

لكن بكل تأكيد وفي ظل المتغيرات الدولية المتسارعة والضخمة لابد وأن تطرح الأسئلة حول أهمية عقد مثل هذه القمم خصوصاً أن العلاقات بين الدول العربية والصين أو أميركا وأوروبا قائمة وتنمو أحجام التبادلات التجارية وكذلك الاستثمارات، لكن في الحقيقة أننا في عالم بات يؤسس لحقبة جديدة أو كما يصفها بعض السياسيين في العالم مرحلة جديدة من إعادة بناء العالم. قد كان تفكك الاتحاد السوفيتي هو المنعطف الكبير لبداية تشكل عالم اليوم والمستقبل، إذ نحيت الأيديولوجيات من دورها وأهميتها في التنافس على قيادة العالم إلى صالح الاقتصاد وميدان التنافس فيه والتركيز على أن تكون الأفكار ومفاتيح القوة الاقتصادية هي الممكن لمن يسعى لقيادة العالم، فالشعوب مع ثورة الاتصالات والتكنولوجيا وانتشار التعليم وزيادة الدخل أصبحت تركز على ما معيشتها وتحسين أوضاعها الاقتصادية أكثر من الالتفات لأي فكر أو معتقد سياسي، ولذلك أصبح نموذج البطولة هم أثرياء التكنولوجيا من الشباب الذين حققوا ثروات هائلة من أفكار بسيطة تحولت لشركات عملاقة، ولم يعد نموذج المقاتل والمناضل لدعم أيديولوجيات هو ما يجذب شباب العالم، فقصة نجاح مؤسسي فيسبوك أو أمازون وعلي بابا وآبل وغيرهم أهم وأكثر رسوخاً وشداً للانتباه من قصص من قاتلوا لأجل نشر الفكر الاشتراكي أو الشيوعي وغيرها، فالصين تركز على التنمية البشرية ورفع دور الفرد بالإنتاج والاستهلاك لديها، وهذا الأمر يلتقي مع الدول العربية، وهو ما سرَّع أيضاً من حجم الشراكات بين الطرفين، فبقدر ما نحتاج للصين في أن تكون مصدراً مهماً للتكنولوجيا وتوطينها في الدول العربية وكذلك سوقاً للسلع التي نصدرها فإن الصين أيضاً بحاجة لتوطيد علاقتها بالشرق الأوسط والعالم العربي تحديداً، فحوالي 52 بالمائة من النفط الذي تستورده الصين يأتيها من الدول العربية إضافة إلى المنتجات البتروكيماوية والغاز والمعادن وغيرها، أي أننا نمثل للصين عمقاً اقتصادياً هائلاً وتمثل لنا أيضاً أهمية بالغة في الشراكة في مجالات صناعية وكذلك تكنولوجيا الطاقة المتجددة وأيضاً توازن العلاقات مع العالم وتعدد مصادر الصناعات والاستثمارات، وهي نموذج اقتصادي يمكن الاستفادة منه في نهضة تنموية يحتاجها عالمنا العربي كثيراً إضافة إلى أن هذه العلاقات معها ومع روسيا والهند والقوى الناشئة كافة تعد أيضاً مكسباً سياسياً واقتصادياً كبيراً يبعث برسالة للغرب بأنالعالم في نظرنا متعدد الأقطاب وأننا نقيم علاقاتنا بما يكفل مصالحنا ويحد من محاولات الغرب فرض أجندته على العالم والتدخل بشؤون الدول داخلياً، وهذا ما جعل العلاقة معهم على درجة عالية من الحساسية، فتوجهاتهم أصبحت مرفوضة دولياً نظراً لمسِّها بعقيدة الشعوب ومبادئها وقيمها وتدخلاتهم سلبية مما أضعف التعامل معهم لصالح القوى الجديدة.

في السياسة بعالمنا المعاصر من يريد أن يقرأ ما يجري عليه أن يستمع للصوت الذي يتحدث عن المستقبل بناء على التوجهات الاقتصادية والفكرية الداعمة للتنمية والتي أصبحت هي الركائز والنظريات الجديدة التي تحكم توجهات العالم، أما من يريد أن يستجر الماضي ويسرد قصصه لمحاولة استنتاج ما هو قائم حالياً وإلى أين تتجه الأمور مستقبلاً فهو يضيِّع وقته دون فائدة، لأن حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وما رافقها من حرب باردة انتهت وأصبح العالم يسير نحو عصر تكتلات اقتصادية جديدة، ومن لا يضع قدمه فيها سيبقى رهين الجمود وضياع الفرص، فالصين تأتي للمنطقة بفكر اقتصادي وتنموي متجدد تريد من خلاله تعميق تحالفاتها بعد أن عززت قوتها الاقتصادية وأصبحت قطباً ضخماً وتريد أن تحقق هدفها بالتبادل المزدوج ما بين نمو بدور المستهلك الصيني والريادة بالتجارة الدولية، والدول العربية تريد الانتقال لنهضة تنموية تستغل بها إمكانياتها وتوسع من حجم أسواقها وجذب الاستثمارات وكذلك توليد فرص العمل من خلال الانفتاح الواسع على العالم وإعادة بناء المصالح بما يحقق تلك الأهداف.