كانت سنة 2022 سنة مليئة بالتطورات الدراماتيكية في العالم ومن أهم هذه التطورات انفجار حرب أوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي وهي لم تنته حتى الآن والسنة تشارف على نهايتها. هذه الحرب التهمت الآلتين العسكريتين لروسيا وأوكرانيا وابتلعت أيضاً ذخيرة حلف الناتو. وقد أدى هذا الصراع في نحو تسعة أشهر إلى انقسام مجلس الأمن وانهيار قدرته على فرض وقف إطلاق النار وإدارة مفاوضات من أجل الوصول إلى حل مقبول لهذه الحرب المدمرة. وأدت أيضاً إلى شبه انهيار للنظام الاقتصادي العالمي، لا سيما في ما يتعلق بالطاقة، إذ باتت أوروبا تبحث عن مصادر النفط والغاز لتواجه الشتاء القارس والقارات الأخرى، لا سيما أفريقيا والشرق الأوسط، تبحث عن الحبوب ومصادر التخزين الحيوي.

وإذا كانت هنالك من حالة حربية اقتربت من تهديد العالم بمواجهة نووية فهي الحرب الأوكرانية الروسية. ومعها سنعبر جميعنا إلى عام 2023 من دون أن نرى حلاً سريعاً ومباشراً لهذا الصراع، وسوف يشكل استمرار حرب أوكرانيا في العام المقبل التحدي الأكبر على صعيد حل الصراعات ما بين الشرق والغرب. وقد أدت هذه المواجهة إلى تأثيرات كبيرة في قدرة الولايات المتحدة الأميركية وصورتها عالمياً. فكما كتبنا في الماضي فإن الانسحاب الدراماتيكي الكبير من أفغانستان والعودة المتسارعة إلى الاتفاق النووي الإيراني قد أديا إلى انقلاب في تقييم القوى الكبرى الأخرى، من روسيا والصين وبعض الدول ككوريا الشمالية وإيران، لقوة أميركا، وربما قد يكتشف المؤرخون أنه في صلب قرار اجتياح أوكرانيا كان هناك شعور لدى هذه القوى بأن واشنطن لن تتدخل عسكرياً وبشكل مباشر ولن تنشر قواتها داخل أوكرانيا، بخاصة بعد أن انسحبت من أفغانستان وبهذه الطريقة، بالتالي دخلت القوات الروسية أراضي جارتها وقيادتها ربما تعتقد أنه في نهاية المطاف إن لم تحصل على كل كييف فهي سوف تحصل على المناطق التي تبغي السيطرة عليها وضمها ربما في شرق البلاد وجنوبها والقرم وتوسيع سواحلها في البحر الأسود. هذا من دون شك سوف يبقى التأثير الأكبر على الصعيد العسكري العالمي لهذا العام المنصرم.

التأثير في واشنطن

ولكن هذا التأثير في الولايات المتحدة سيكون له ارتدادات في مجالات أخرى منها داخلية ومنها خارجية. وستتأثر سياسة إدارة جو بايدن في الشرق الأوسط وهي أمامها كثير من التحديات التي مررنا عليها وحللنا معظمها. إلا أن السياسة الخارجية الأميركية المعروفة باستمراريتها على صعيد المصالح، وأيضاً بتقلبها حسب من هو في البيت الأبيض، سوف تتأثر بثلاث عواصف آتية. عاصفتان داخليتان في الولايات المتحدة الأميركية سوف تؤثر في سياساتها بالعمق، وعاصفة ثالثة ستنطلق من الشرق الأوسط وتؤثر في واشنطن وتضغط عليها، فما هذه العواصف الآتية؟

العاصفة الأولى: الكونغرس

العاصفة الأولى هي في نتائج انتخابات الكونغرس الأميركي وسيطرة الجمهوريين على مجلس النواب.

بالطبع كانت القيادة الجمهورية تتمنى الحصول على سيطرة كاملة على الكونغرس، أي أن يكون لها أكثرية في مجلس الشيوخ أيضاً. ولكن هذه المؤسسة ما لم يحدث أي تطور دستوري ستبقى بين أيدي الديمقراطيين ولكن بفارق صوت واحد. وقد يحتاج الديمقراطيون إلى نائبة الرئيس لكي يمرروا كل مشروع يطرحونه الآن. إلا أن التطورات الداخلية الأميركية قد تأتي بمفاجأة في العامين المقبلين. ففي الأسبوع الماضي انتقلت عضو مجلس الشيوخ عن أريزونا كريستين سينما من الحزب الديمقراطي إلى لائحة المستقلين، بما سوف يؤثر في الأكثرية الديمقراطية المطلقة ويضعفها لكن من دون أن يلغيها. وقد تحصل مفاجآت أخرى مثل احتمال انتقال سيناتور ديمقراطي آخر إلى موقع مستقل. فالأكثرية الديمقراطية الحالية هي ركيكة وقد تجبر حزبها على التفاوض في ما يتعلق بالسياسة الخارجية، بما في ذلك الشرق الأوسط.

ولذلك العاصفة الكبرى الدستورية في واشنطن هي سيطرة الجمهوريين وأكثريتهم من أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب على مجلس النواب. ويعني ذلك أن رؤساء اللجان لا سيما الخارجية والدفاع والأمن سوف يعملون على التأثير في سياسة إدارة بايدن في ما يتعلق بالشرق الأوسط. وكنا قد كتبنا في الأسبوع الماضي عن الملفات التي سوف تتأثر وأهمها ملف الاتفاق النووي الإيراني. فالسياسة الأميركية تجاه النظام الإيراني في 2023 سوف تكون تحدياً كبيراً، إذ سيواجه الجمهوريون سياسة بايدن الشرق أوسطية ولا سيما تجاه إيران، وفي الوقت نفسه سوف يسعون إلى إصلاح هذه السياسة كذلك تجاه إسرائيل والتحالف العربي. وسوف تفتح ملفات هذه السياسة في مجلس النواب وجزئياً في مجلس الشيوخ، مما سوف يلزم البيت الأبيض بأن يعدل بعض سياساته وليس كلها في العامين المقبلين وقد يحرمها من الحصول على دعم أو تصويت في الكونغرس للتوقيع على الاتفاق النووي الإيراني. هذه العاصفة سوف تكون مثيلة للعاصفة التي شنها الديمقراطيون على إدارة ترمب في سنوات حكمه الأربع ولا سيما في السنتين الأخيرتين، فها هو ذا الدولاب تدور عجلته وسيتمكن مجلس النواب من إطلاق جلسات استماع، ومن أن يطلع على ميزانيات السياسات الأميركية المختلفة تجاه أطراف المنطقة، فالمجلس بإمكانه أن يساعد من يريد ويلغي مساعدات من يريد، ولكن ذلك لا يعني أن هذه العاصفة سوف تغير كل السياسة الأميركية في المنطقة ولكن السياسة الأميركية القائمة سوف تتغير إلى حد معين.

العاصفة الثانية: انقلاب "تويتر"

مع تسلم إيلون ماسك منصة "تويتر" هذا الخريف ومع خروج ملفات "تويتر" السرية "Twitter Files" التي تتهم إدارة بايدن منذ 2021 والمعارضة السابقة بقيادة باراك أوباما خلال فترة ترمب بأنها تدخلت في الانتخابات الرئاسية في عام 2020، سيكون لهذه الملفات نتائج سياسية عميقة في المجتمع الأميركي، وسوف تزيد الانقسامات الداخلية وقد تؤدي إلى زعزعة استقرار سياسة بايدن على الصعيد الداخلي وطبعاً على الصعيد الخارجي بما في ذلك بالشرق الأوسط. ومن أهم الملفات التي سوف تتأثر بسيطرة ماسك على منصة "تويتر" خارجياً هو موضوع إيران، إذ إنه بات من الملاحظ أن المعارضة الإيرانية باتت فاعلة في التغريد لقضيتها الآن بشكل أكبر بكثير مما كان عليه الأمر منذ 2009. وتتقاطع أسباب ذلك، فإيلون ماسك هو أول من أهدى الشعب الإيراني ولو بشكل محدود تغطية للإنترنت عبر شركة StarLink، لمساعدة المحتجين الإيرانيين على التواصل بين بعضهم بعضاً والتعبير عن أنفسهم وعما يجري في الداخل للعالم الخارجي، مما كان له ولا يزال تأثير في أوروبا وفي أميركا الشمالية. ولكن الأهم أن المنصة أعطت قوة كبيرة للمعارضة الإيرانية، وهي تعارض الاتفاق النووي، وحضوراً كبيراً جداً في "تويتر". فإدارة ماسك قد أنهت "الفيتوهات" التي كانت موضوعة على كل من كان يعارض الاتفاق النووي الإيراني لسنوات، بالتالي فإن المجموعات الإيرانية الأميركية والأوروبية وتلك العاملة ضمن إيران بات حضورها أكبر بعشرة أضعاف مما كان عليه قبل قدوم إيلون ماسك إلى الساحة. وهذا بالطبع أثر وسوف يؤثر في الرأي العام الأميركي الذي وجد وسيلة لتعبئة الرأي العام والفنانين والنواب، فبات يضغط على البيت الأبيض مباشرة مما سيزيد صعوبة تمرير الاتفاق النووي عبر الكونغرس لا بل عبر المباركة الشعبية.

العاصفة الثالثة: الثورة الإيرانية

هذه العاصفة تأتي عملياً من إيران نفسها. فمع استمرار المظاهرات وتمدد الانتفاضة الشاملة داخل الحدود الإيرانية والتعبير الذي تتمتع به الآن وقدرتها على المقاومة لأشهر طويلة قد خلق موجة تأييد في الغرب بشكل عام وفي أوروبا وأميركا بشكل خاص. فتأثير اللوبي الإيراني في مراكز القرار في بروكسل وواشنطن بات يضعف مع توسع الاحتجاجات في الداخل. فمع أن للنظام قوة قمعية فتاكة فيبدو أن المنتفضين قد وصلوا إلى حد إطلاق ثورة إيرانية ليست عائدة إلى الوراء، مما ينذر بأن الثورة داخل إيران سوف تكون بنفسها عاملاً كبيراً للتأثير في الرأي العام الأميركي وبدوره يضغط على السياسة الخارجية تجاه المنطقة.

الخلاصة

العواصف الثلاث، تغيير الأكثرية في مجلس النواب الأميركي وقدوم إيلون ماسك إلى الساحة السياسية عبر "تويتر" والثورة داخل إيران، هي مثلث سوف يخلق بركاناً سياسياً، بالتالي يشكل تحدياً لتقدم السياسة الحالية عبر الضغط عليها وربما إجبارها على تغيير ما، لا نعرف إلى أي مدى سوف تتغير أو كيف سوف يرد اللوبي الإيراني على هذه العواصف. ولكن ما وصلنا إليه الآن في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط لم ير له مثيل في السنوات الماضية. فتقاطع الثورة الإيرانية والثورة التويترية وثورة مجلس النواب الآتية هو عنوان المرحلة الجديدة التي سوف تؤثر في واشنطن في العامين المقبلين.