في تناولاتنا لنماذج من إبداع المرأة في المسرح في الوطن العربي واجهتنا مشكلتان جديرتان بالبحث والتحليل؛ أولاهما: ندرة إبداع المرأة في التأليف المسرحي وإن وجد افتقد للحرفية الدرامية..
إذا ما سلمنا بأن الفن لا وطن له ولا حدود، كونه فن إنساني سواء كان فطرياً أو مكتسباً، فإن المسرح بصفته أبا الفنون هو كذلك لا وطن له ولا حدود، ومن هذا المنطلق تكون كتابة المرأة فيه فناً خاصاً ذا مذاق خاص بذائقة الشعور والحس الإنساني متعدد الجوانب، فهل يجوز أن نصنف الكتابة المسرحية إلى مسرح الرجل ومسرح المرأة؟ سؤال يرد إلى ذهني عندما يصل إلى مسامعي هذا التصنيف.
إنها قضية مهمة يجب أن نتدارسها، لكي نرسو على شطآن هذا البحر الهادر؛ حيث إن السعي وراء هذا فصل تعسفي، ذلك لأن إبداع المرأة المسرحي هو نتاج إطار مرجعي تحمله، ينضح بكل معطيات التراث والموروث، لكنه يحمل بداخله حس المرأة الخفي المتمايز في الوقت نفسه على جميع المستويات، ولذلك يتوجب استبدال هذا المصطلح إلى مصطلح آخر لا يحمل هذا الفصل، ولا يقسم ظهر المسرح إلى نصفين كما يدور في أروقة الجامعات وقاعات المؤتمرات والملتقيات الثقافية.
فعلى الرغم من كم الأعمال التي نشرت عن إبداع المرأة، إلا أن اشتغال المرأة بالمسرح في العالم لم ينل إلا قسطاً بسيطاً من الاهتمام، ويبدو ذلك مثيراً للفضول للوهلة الأولى، فتاريخ اشتغال المرأة بالمسرح طويل، ومع ذلك صحت المقولة الخاصة بعدم الاهتمام بكتابة المرأة المسرحية حتى على المستوى الدولي إن جاز التعبير. هذه حقيقة تؤدي إلى استمرار كل أنواع الفهم الخاطئ والافتراضات المغلوطة، وعلى رأسها الاعتقاد بأن النساء كن وصلن متأخرات إلى ساحة العمل المسرحي في القرن السابع عشر، وندر أن وجد أي اشتراك للمرأة فيما يتعلق بالشـؤون الخاصة بالإدارة والإنتاج، ومنذ سنة 1931 نشرت (روز جيلد) دخول النساء في المسرح، ورغم نشر عدة دراسات فردية عن ظاهرة تاريخ المرأة في المسرح إلا أن كتابها لا يزال يعد الكتاب النادر الذي يتناول الموضوع على نطاق واسع، فهل الإشكالية كما قال فوزي فهمي -رحمه الله-: "منذ طرح الرجل سؤال التعيين لماهية المرأة ثم راح يجيب عنه وحده بالوكالة وفق تصوراته، ينتج وينشر صوراً تستهدف وضع تراتبية اجتماعية وبيولوجية، ظلت المرأة خاضعة لمحاولات التدجين التي تفرضها ثقافة الرجل في شتى مجالاتها، بقوة هيمنة تحرم المرأة من حرية أفكارها بشكل يحرمها من حرية التفكير". وتقول (جانيت براون): "تقدمت 1977 برسالة دكتوراة موضوعها الدراما النسوية، وكخطوة أولى لا غنى عنها قمت بالرجوع إلى الأدب بصفة عامة من خلال استعراضي له هالني أن اكتشفت أنه لا توجد تقريباً كتابات تناولت هذا الموضوع". في هذه الكلمات تسعى جانيت إلى تثبيت مفهوم سائد تتفق فيه مع فوزي فهمي، وهو السعي للتخلص من سلطة الرجل حين تقول: "إنه سعي نحو الاستقلالية من مجتمع أبوي"، إن هذه المقولة لا تنطبق على سيكلوجية المبدع حين الكتابة، لأنه يكون في هذا الحال إنساناً بعيداً عن التصنيف، فهو حينها يكون في عالم الإلهام عالم العقل الكوني (cosmic mind) ولا تختص بهموم المرأة نفسها، والرجل إذا ما طبقت تقنيات الكتابة المسرحية وأولها البعد عن الذاتية في التعبير وهو أول خيط يضعنا على المحك من هذا التصنيف.
إن من أفضل من كتب عن هموم المرأة هو الكاتب النرويجي (هنريك إبسن 1828-1906) في مسرحيته بيت الدمية، "نورا" على سبيل المثال في بيت الدمية تتناول قضيه حرية المرأة في القرن التاسع عشر في أوروبا، إذ ذكر النقاد أن صفعة نورا للباب حين خروجها قد هزت أرجاء المجتمع الأوروبي آنذاك. وهذا لا ينفي أن هناك عبقاً خاصاً لإبداع المرأة، ولكنه لا يخضع للتصنيف بل يحتاج إلى فهم دقيق بفهم الكتابة ومدارسها وتقنياتها لاختلاف هذا الجنس الأدبي عن بقيه الأجناس الأخرى، وتقول الناقدة العالمية سوزان باسنت: "منذ امرأة الشامان.. مروراً بنجمات برودواي.. وحتى عهد الداعيات للحركة النسوية شكلت هذه الرؤية دور المرأة في المسرح، فقد ظلت النساء في خدمة الفن والناس بعد تحررهن من قمع الرجال بفضل الظروف غالباً، وبإرادتهن أحياناً، وتحررهن كان بغرض ترك بصمة في هذا العالم وبهدف تنمية الذات".
مقولة محيرة فالكل في هذا المجال من الباحثين في الغرب يطلقون هذا التفسير على جميع الإبداعات النسوية، حيث يرون أن عالم المرأة عالم أبوي! أما في الشرق فيختلف الرأي، فالفيلسوف الهندي روبندرونات طاغور( 1861-1941) يناقض هذه الآراء تماماً، فيقول: "متى أحبت المرأة كان الحب لديها نبراسا وكان حبيبها موضع التبجيل". وفي موضع آخر تقول "بيجالا" فتاة هندية: "ما ترك لي زوجي مجالاً لأقدسه وهنا عظمته، ثمة رجال يريدون تقييدها، إن حب زوجي إياي كان ملؤه الإخلاص لكن خلقت لأعطي أكثر مما آخذ، الحب يشبه تلك الأزهار التي تنمو في السهول أكثر مما تنمو في أواني البلور". إن زوجها في حواره هذا معها نجده يشعرها بمساواتها إياه في كل مجال فكان إذا قالت له: "إن أخطاء النساء صغيرة معوجة" أجابها: ليس هذا ذنب المرأة بل ذنب المحيط، ألا ترين أن أقدام الصينيات صغيرة؟ لأنها جبلت على الضغط منذ الحداثة.
هذا التصور لدى فلاسفة ومفكري الشرق يقودنا إلى مفهوم أكثر نضجاً، وهو السلطة الاجتماعية برمتها، فإبداع المرأة ليس تحرراً من سلطة الرجل بقدر ما هو هجين ذو مذاق خاص ونكهة متفردة بجميع الجوانب الاجتماعية والسياسية والنفسية، لكن الانسلاخ من جلد مستعار في لغة مستعارة كان جليّاً في أعمال العديد من المبدعات، فتقدمن كائناً جديداً يولد من رحم مكبل بأعباء الماضي من خلال الذاتية المفرطة. تقول الكاتبة الفرنسية هيلين سيكو: "لقد شعرت مراراً بسيل جارف ومضن أستطيع أن أفجره في أشكال أجمل بكثير من تلك الأشكال المحدودة، والمشكلة داخل إطارات بمقابل ضخم وكريه، وأنا أيضاً لم أقل شيئاً ولم أظهر شيئاً، لم أفتح فمي، ولم أعد طلاء النصف الخاص بي من العالم، لقد شعرت بالخزي والعار، لقد كنت خائفة فابتلعت عاري وخوفي، وقلت لنفسي أنت مجنونة. ما معنى كل هذه الهزات؟ تعتريني هذه الفيضانات والانفجارات". تتساءل عن الطاقة الكامنة التي لا بد أن تتفجر في إبداعاتها ليفصح اللاشعور لدى المرأة عن محتوى فكرها، وفي تناولاتنا لنماذج من إبداع المرأة في المسرح في الوطن العربي واجهتنا مشكلتان جديرتان بالبحث والتحليل؛ أولاهما: ندرة إبداع المرأة في التأليف المسرحي وإن وجد افتقد للحرفية الدرامية، ثم ما صورة الرجل عندها إذاً؟ حين تناولت الرجل في نصوصها لم يكن هدفها الأساسي تصوير الرجل أو الوقوف أمامه بالسلب أو الإيجاب وإنما كانت الصور الرجالية الباعثة للأحداث الدرامية، حيث كان الرجل المحرك للحدث والباعث للدراما والكامن وراء الأحداث، مما يصف هذه الإبداعات بما يسمى بالاغتراب أو الضياع.
التعليقات