الصورة عن ألف كلمة، واللوحة الفنية عن ألف كلمة وألف معنى، أما بعض الخطوط الكاريكاتورية البسيطة في تكوينها فهي عن ألوف الكلمات وانعكاس لواقع يحمل ما طاب من المعاني والألغاز العارية ولكنها محيرة، والحيرة في بعض الخطوط تتحسس ذاتها متذبذبة بين تساؤل مشوب بشك وغيض نابع من يقين، ولكنه يقينُ الحَذِرِ بالبوح به.

لوحة لخطوط كاريكاتورية من مصدر فرنسي أثارت اهتمامي، ذاك الاهتمام الذي أصبح هم الناس في عالم آخذ في التحول الى سوق كبيرة سادتها تجار من نوع آخر، إذ إن بضاعاتهم هي صحة الانسان وتعليم الانسان وحتى مواقع الاخلاق عند الانسان. هذه اللوحة الكاريكاتورية، مثل جميع أعمال الكاريكاتير، خطوطها بسيطة ومحتوياتها أقل من قليلة، تعكس ثلاث شخصيات، رجل في الواجهة وامرأة على مسافة وراء الرجل على اليسار، وشبه هيكل بشري يصعب تشخيص جنسه إن كان رجلًا أو امرأة، والثلاثة بساق مبتورة ويستعينون بعكاز ليعينهم على المشي، عكازين تحت الإبطين. الأرض تحتهم مسطحة صماء بلون بني فاتح يوحي بفقدان تلك الأرض من دبيب الحياة، لا زرع ولا نبات ولا حتى خط يتيم، والسماء فقدت لونها الازرق الفاتح الباعث على الانشراح، وتلبست بلون رمادي فاتح يبعث على الكآبة، لا غيمة سابحة ولا ريشة طير راقصة، وبين الارض والسماء سلسلة من تلال ليست بلون الجبال..

اللوحة تعبير عن كآبة مميزة، هي تلك التي تأكل من خيوط النفس المخدوعة. عنوان اللوحة هو لسان حال حملة العكازات، وصيغته: «لا بد من البتر.. أعلن باعة العكازات.. ونحن صدقناهم». بائع العكازات، والمقصود هو الطبيب، في هذه الصيغة، ينصح المريض بضرورة البتر، او الاستئصال او عملية جراحية او فحوصات مكلفة او أدوية لا حاجة اليها، وإلّا! وهذه الإلاّ هي التي ترعب المريض وتهز كيانه وتعطل عقله وتوجس نفسه، ومن توجس النفس الى تسليم الذات لتكون تحت ارادة الطبيب، الذي يخدم نفسه أولاً وإدارة العيادة الخاصة ثانيًا، والمعنى أن «البتر» ليس ضرورة صحية ملحة ولكن مطلب تجاري مغرٍ..

للطب والاطباء، لا شك، الدور المحمود في تأمين صحة الناس، خدمة ووقاية وعلاجًا، وهم يستحقون الاحترام والتقدير، ولكن مثلما يقول المثل «لكلِّ جوادٍ كبوة»، وما هي بكبوة الطب بل كبوة النفس الهزيلة التي يمكن أن تشط بالطبيب عن سواء السبيل الذي يحفظ لمهنة الطب فضيلتها، فكيف اذا اتيح لمهنة الطب خروجها من تحت سقف الدولة وتمركزها تحت سقف التجارة. تحت سقف التجارة تنمو لمهنة الطب أنياب مفترسة، وهي القوة التي تيسر السبيل الى الثروة على حساب الصحة. للقوة مراكز محدودة، قوة من بيده سلطة المال، وهم القلة.. وقوة من يتيسر له السبيل الى عالم المال، وهم المتنفذون من بين أصحاب مهن مختلفة، وعلى رأسها مهنة الطب.. المال هو الإله، والعياذ بالله!! مهنة الطب لها مكانتها المميزة وأهميتها الخاصة، بخصوصية شخص المريض أمام شخص الطبيب دون حواجز تستر أسرار جسد المريض وحالته، وهي بهذه الخصوصية تتمتع بقوة لا يمكن للمريض مقاومتها لأنه من الصعب تشخيصها. استغلال هذه القوة من أجل المصلحة المادية الخاصة وعلى حساب شرف المهنة ليس بالأمر الجديد، ولكن هذا الاستغلال كان في سابق الزمان جريمة، أما اليوم فهذا الاستغلال شرعي بصك قضائي ودعم سياسي وابتهال تجاري (ليس اقتصاديًا!!!). تجار الصحة وتجار الأدوية وتجار المراهم، يشكلون تحالفًا طبيًا.. تحالفًا غير عسكري له نتائج أبشع من نتائج التحالف العسكري.. توصيفات شتى لكل الأعمار ولكل حالة ولكل زاوية في الجسم، ولكل عضو داخلي وخارجي، وحتى الحالات النفسية لها عقاقيرها، وعلى رأس تلك الحالات هي السعي الحثيث الى الشعور بالسعادة.. عقاقير للسعادة!!!

الكاريكاتير يعكس واقعًا مرًا آخذًا في التدرج الى تخطي حدود المهنة دخولاً الى ساحة الجريمة المنظمة، ولكنها جريمة مدعومة بصك البراءة من جهل الضحية وحاجته الملحة وتغافل، او كذلك جهل، من بيدهم القدرة على إدانة الجريمة والعمل على الحد من تفعيلها، لأن هذا النوع من الجريمة مُفَعَّلٌ تحت سقف المهنة، والسقف يخفي دوافع الجريمة وفعلها، وتبقى آثارها مهملة او تنسب الى الأقدار غير المقدور عليها.

صورة نمطية لِأُسِّ التجارة، حيث البائع ينادي بأعلى صوته يمتدح ميزات بضاعته، وهو الشكل البدائي البسيط للدعاية، والزبون حسب مستوى وعيه او اضطرار حاجته قد يقتنع او لا يقتنع، ولكن الغالبية الغالبة تتمايل نفوسها الى تكذيب عقولها وتصديق الدعاية وإن كانت نتائجها وخيمة..

التاجر يريد مال المشتري، وهو يسعى للحصول على أكبر قدر من ذاك المال مستخدمًا جميع فنون الحيل التي تعلمها واكتسبها وخبرها، ومن غير المستبعد أن يكون المفكر السياسي الشهير مكيافيللي قد استوحى أطروحته السياسية في كتاب «الأمير» من فنون الدعاية في عالم التجارة، وقد أصبحت هذه الأطروحة أشبه بكتاب مقدس عند السياسيين ذوي الطموحات البابلية (إشارة الى برج بابل الذي أمر ببنائه الملك نمرود حتى يصل الى السماء والتربع على عرش الإله!!!)