المشهد في منطقة الشرق الأوسط يتغير بشكل يجعل من الصعب المتابعة أو التكهّن بما قد يحدث في الغد القريب. فالحرب المشتعلة في السودان تُنذر بامتدادها إلى خارج حدوده، والأراضي المحتلة تحترق غضباً وعنفاً، بينما تجري المصالحات بين الأعداء التقليديين بشكل مفاجئ، تعود معه سوريا بأسدها إلى الحظيرة العربية لتنتهي التهديدات السابقة بإسقاط بشار الأسد، والدعوة إلى عزله ونفيه خارج الحضن العربي الذي نبذَه مسبقاً لأسباب مختلفة لا علاقة لها على الإطلاق بنظامه السياسي، وإنما لدواعي خلافات سياسية بين الرؤوس الكبيرة دفع ثمنها الشعب السوري وحده، تماماً كما اعتادت الشعوب العربية في كل مكان على دفع فواتير اختلاف الأنظمة السياسية فيما بينها.

المشهد العربي اليوم يدخل في جولة جديدة من الفوضى تذكّرنا بحديث وزيرة الخارجية الأميركية السابقة «كونداليزا رايس» في مطلع العام 2005 حين صرّحت عن نيّة الولايات المتحدة الأميركية نشر الديموقراطية في العالم العربي والبدء بتشكيل ما يُعرَف بالشرق الأوسط الجديد، وذلك عَبْر نشر ما أطلقت عليه «الفوضى الخلاقة» التي قامت أساساً على افتراضات أن الأنظمة الحليفة في المنطقة لديها من القوة ما يكفي لغرس الخوف والذعر في نفوس الجماهير التي قد تقف في وجه أي محاولة إعاقة لرسم خريطة المنطقة بشكل يجعل إسرائيل ضمن إطارها، لذلك وصف أحد رموز السياسة الأميركية الخارجية الربيع العربي بكونه يحمل في طياته فرصاً هائلة ومخاطر كبيرة.

ولم تكن واشنطن هي الوحيدة التي فكرت في إثارة فوضى تستثمرها فيما بعد، فلقد سبقتها تيارات الإسلام السياسي حين أعلنت عن نسختها الخاصة من مثل هذه الفوضى، وذلك من خلال الترويج لها في كتاب «إدارة التوحش» الذي يُعتَبَر بمنزلة مانيفستو حركات الإسلام السياسي، وهو الكتاب الصادر تحت مسمى حركي هو «أبو بكر ناجي»، حيث مُنع الكتاب من التداول في العديد من الدول العربية وتمت ترجمته إلى الانكليزية من قِبَل مركز مكافحة الإرهاب الأميركي وتوزيعه على المسؤولين في الدوائر السياسية للحكومة الأميركية ووزارة الدفاع.

استخدَمَ الكاتب الغامض الهوية كلمة التوحّش قاصدًا بها تلك الحالة من الفوضى التي سَتَدبّ في أوصال دولة ما أو منطقة بعينها إذا ما زالت عنها قبضة السلطات، وهي فوضى ستكون متوحشة يتعيّن على المجاهدين أثناءها أن يقيموا فيها إمارة لتطبيق الشريعة ورعاية مصالح الناس من طعام وعلاج، وبالفعل فقد شهدت مناطق من العراق وسوريا نماذج من هذه الإدارة إبان ما يُعرَف بحركة داعش والتي تبدو كالشبح الذي يظهر فجأة حين تستدعي الأمور ظهوره، ليختفي كما ظهر.

العالم العربي يقف اليوم بين قبضتي نموذجين من الفوضى، نموذج غربي تُجسّده نظرية الفوضى الخلّاقة، ونموذج إسلامي تُعبّر عنه طموحات الإسلام السياسي في إدارة المنطقة والسيطرة عليها سياسيًا وفكريًا، وكل ما تَعبر به المنطقة اليوم من أحداث وتغيّرات واقع لا شك في إطار هاتين القبضتين.

حرب السودان وسلام سوريا واستقرار العراق وختام حرب اليمن وغيرها من أحداث لا يمكن التكهّن بها وفقاً لفرضية حدَث واحد بعينه، وإنما وفقاً لنظرة شاملة للحاضر وأخرى مُمتدة عبر الماضي. فما تَعبُر به المنطقة اليوم ما هو إلا فاصل زمني قصير في مجرى طويل للأحداث المتراكمة، ولعل في تجربتنا القريبة من الربيع العربي ما يؤكد ذلك، فاستبدال سُلطة بسُلطة لن يقود إلى التغيير المطلوب، والذي تطلّب من أوروبا قرنين من الزمان خاضت الشعوب خلالهما عصوراً تنويرية قادتها إلى حاضرها اليوم.

التغيير المطلوب لا تحقّقه مناقصات إعمار ولا تقوده صفقات تجارية، وإنما استيعاب لطبيعة مسار التاريخ والتعامل مع امتداده بدلاً من اجتزاء قطع صغيرة منه واعتبارها أساسًا للتغيير.

هذه هي الوسيلة الوحيدة للخروج من قبضة كفتي فوضى الغرب الخلّاقة وفوضى الإسلام السياسي بغطائها الشرعي.