شهدت سوريا عدداً غير عادي من الحضارات التي استقرت فيها، ولم تتخل عنها ضجراً أو مللاً، وإنما غابت بسبب مجيء الأقوى والأجدد، وظلت دمشق تشهد هذا التلاحق من الزوار، فمن الاسكندر مروراً بالإمبراطورية الرومانية والفارسية، واستأنست بحضور الإسلام، ومن هذه الحضارات المختلفة خرجت دمشق بشخصية تضم شيئاً مؤثراً استخلصته من حياتها مع هذه التبدلات، فاستوعب شعبها الكثير من المفيد والصالح من بقايا هؤلاء الزوار، الذين لم يتوقفوا مع الفتح الإسلامي، فجاء بعدهم الصليبيون ليبقوا أكثر من قرن ونصف القرن ليخرجهم صلاح الدين الأيوبي، ثم يخرجهم بعد ذلك المماليك وزعيمهم الظاهر بيبرس.

دمشق هي الشام أبقت الكثير مما أخذته من هؤلاء المحتلين والفاتحين، من التقاسيم في الجسد ومن تموجات الطباع ومن شحنات التفكير.

زرت دمشق لأول مرة في منتصف الخمسينيات، وبقيت فترة الصيف، قابلت العديد من أهل الجوار وغيرهم، وليس من الصعب أن يرصد الزائر ما يحمله الشعب السوري من صفات ومن تمنيات حول آفاق المستقبل.

كان حديثهم دائماً ناقداً لأوضاعهم، متبرماً من ضيق الساحة وسابحاً في أوهام الأمة العربية منتظراً منها التوحد وليس التضامن، يشكل شعباً عربياً واحداً وليس شعوباً، يقود الأمة إلى وادي المجد والإنجاز.

كانت زيارتي تلك قبل الوحدة المصرية - السورية، وما أتذكره من تلك الزيارة الشعور السوري باليقين بأن مجداً عربياً يلمع في الأفق البعيد، تكون أولوياته الانتصار على إسرائيل، وأكثر من ذلك، غياب الالتزام بالحس الوطني السوري بحدوده وبواقع سيادته والاعتزاز بإمكاناته، فكل الحوارات توحي بأن الجمهورية السورية مرحلة عابرة إلى شيء أكبر، ليس مع الجوار، فلا توجد حميمية مع الأردن، وشكوك حول لبنان، لكنها مع العراق دون الهاشمية، وعندما قامت وحدة مصر مع سوريا كان الشعب السوري جاهزاً للابتهاج، فلم تكن سيادة الجمهورية السورية من أولوياته، وإنما كان الأمل لتجمع عربي وحدوي مؤثر إقليمياً ودولياً.

دخلت سوريا التاريخ بإنجاز أول طموحاتها في الوحدة مع مصر، لكن هذه الوحدة لم تصمد في وجه سرعة التبدلات في المزاج السوري صاحب البال القصير، ومع ذلك يظل هاجس الوحدة دائماً مستوطناً في ذهنية السوريين، ولهذا انتشر حزب البعث التقدمي العروبي داخل سوريا، وسيطر على مشاعر السوريين على أمل أن تحقق الوحدة منطلقاً إلى العراق، لكن الخلاف بين الطرفين، لانعدام الثقة بين القيادتين، كان واسعاً وتسبب في اتهامات بالتآمر على نظام صدام حسين.

وظل البعث السوري يحكم منذ الستينيات مردداً الشعارات المتوارثة لتغطية البقاء بالقوة، سواء المحلية أو بنجدة من الحلفاء الاستراتيجيين.

بين السنوات من 2012 ــ 2015، عاش الشعب السوري حالماً بالتغيير، كان النظام على وشك السقوط مع ثورة المعارضة، التي عبّرت عن آمال الأغلبية السورية، لكن قوات النظام وبدعم من الجيش الروسي بطائراته وقواته تدخل بتصميم على إفشال الثورة، فلن يفرط بتحالفاته مع النظام، الذي وفّر لروسيا قواعد بحرية وبرية ومؤازرة صلبة، وبقي النظام مستمراً بعزلة عربية ودولية، خاصة بعد لجوء النظام إلى الأسلحة الكيماوية في أغسطس 2013، الذي دفع موسكو وواشنطن لطرح مشروع أمام مجلس الأمن يدعو إلى حل سياسي طرحته الدولتان الدائمتان في المجلس، وصوّت عليه بالإجماع، يركز على إرادة الشعب السوري لرسم مستقبل سوريا، وتصوّر الجميع بأن هذا القرار، الذي تبناه المجلس في 18 ديسمبر عام 2015، هو مفتاح الحل الضائع، فحرّك القرار رقم 2254 الآمال السورية الواسعة في فك الانفراد العلوي المحتكر للسلطة، والملتزم استعمال القوة، فلا توجد ممنوعات في التصدي للثوار، الذين يراهم الرئيس بشار مجرّد قطّاع طرق وخونة وعشاق للسلطة، ولم يهتم النظام بتأثير قرار مجلس الأمن رقم 2254 وتحت البند السابع، وفيه إصرار على الشراكة الجماعية لإدارة سوريا بالتوافق حول دستور تضعه لجنة مشتركة، فالرئيس بشار الأسد أدخل تغييرات استراتيجية في منظومة الحياة السياسية والذهنية في سوريا، فاحتكر نظامه السلطة منذ 1970.

كان والده الرئيس حافظ الأسد مهندس الحماية العلوية ومخطط احتكار السلطة وراسم آليات الاستمرار والبقاء، كان ليناً باللسان، عنيفاً باليد، جافاً بالقلب، هادئاً بالكلمات، ومسلحاً بالضربات، وجاء ابنه الرئيس بشار مستوعباً فنون البقاء، عازماً على حماية الإرث الذي تركه الأب الناعم، فأبدع في إسكات الاعتراض، وأخرس السنة الطامحين والمغامرين، وبحق، أن الرئيس بشار نجح في إخراج سورياً من الشهية الوحدوية التي رافقتها منذ الاستقلال، وأبدلها بتأسيس دولة عربية - علوية تتحصن للبقاء الدائم على رأس السلطة في دمشق، ونجح أكثر في احتكار القوة والنفوذ وأجهزة الحكم وحصنها في أيدٍ علوية، لكنه غفل عن واقع الشعب السوري المتقلب المزاج، الذي يعشق في صباحه، ويتمرد على ما يعشق في مسائه، فبالرغم من بقاء السلطة في يده وقبله في يد والده، فإن القوة والعنف والتحالفات مع روسيا، كانت هي الآلية التي مكنته في البقاء، ضارباً باعتراضات مجلس الأمن وعنف المعارضة حائط التصدي.

ولم يهتم كثيراً بقرار الجامعة العربية بتجميد عضوية سوريا، ولا في غياب الوجود العربي الرسمي عن دمشق، وشكل بدلاً من ذلك تجمعاً روسياً- سورياً- إيرانياً مدعوماً من كوريا الشمالية، وبهمسات من الصين، فقد أعطته تجاربه مع الشعب السوري مناعة تحصنه من أذى المعارضة ومن حجم الانتقادات ضد تعامله مع الداخل وفي علاقاته الدبلوماسية.

ومع كل هذا الوضع المربك تحسنت أجواء دمشق الدبلوماسية، باتصالات عربية كانت غائبة، فانفتحت أبواب كانت موصدة، واستقبلته عواصم عربية كانت ناقدة، وتلاشت أصوات كانت غاضبة، وأعتقد أن المعارضة السورية التي كانت قوة فاعلة حول الملف السوري، دخلت الآن في تقييم هذه التحولات، خاصة أن مواقف روسيا في مجلس الأمن، مع الإدانة العالمية لسلوكها في أوكرانيا، تحولت لمصلحة النظام السوري، الأمر الذي عطّل حيوية مجلس الأمن وشل اهتمامه، وفوق ذلك، تتكاثر الأخبار عن دعوة توجّه إلى سوريا لحضور القمة العربية التي تتم في الرياض في شهر مايو المقبل.

في آخر قمة خليجية عقدت في الكويت، كان مقعد ممثل المعارضة السورية، المدعو إلى المؤتمر، بجانبي في جلسة الافتتاح، قلت له عليك أن تشرح قضيتكم بقوة وبالتفاصيل فكان يهز رأسه مؤيداً، لكن خطابه كان تمنيات وآمالاً، وفوق ذلك، كان فاتراً وناعساً، والواضح أن المعارضة تعاني من انحسار الدعم وفتور المساندة.

وسيسجل التاريخ بأن الرئيس بشار احتفظ بالسلطة لأطول فترة في تاريخ سوريا، وأكثرها عنفاً وأوجعها جروحاً.. وأغمضها مستقبلاً.