«... تقديرًا لدوره الوطنى المشهود فى إعلاء اسم مصر أمام العالم، والحفاظ على وحدة صفّها فى لحظات دقيقة من تاريخ الوطن». حفرتُ هذه الكلمات على درع التكريم الذى قدّمه صالونى الثقافى فى شهر يونيو ٢٠١٩ لقداسة البابا تواضروس الثانى، الذى نحتفلُ هذا الشهر بعيد ميلاده وعيد رسامته على المقعد البابوى المصرى فى نوفمبر ٢٠١٢. ونعلمُ أن الرهبانَ، والبابا فى الأصل راهبٌ، لا يحتفلون بأعياد ميلادهم.

بل هم لا يتذكرّون ولا يعبأون بتلك المناسبات الدنيوية التى تشغل بال معظم البشر. ليس وحسب لأنهم رجالُ دين، ورجالُ الدين فى الغالب مشغولون بالدين عن الدنيا، إنما يتخطّى الأمرُ ذلك حالَ الحديث عن الرهبان. فالراهباتُ والرهبانُ، يوم رسامتهم، يُصلَّى عليهن وعليهم «صلاةُ تجنيز» (كما نُصلّى على موتانا فى الجنائز).

وكأنهم قد غادروا الدنيا!، وهو طقسٌ رمزى يشيرُ إلى أن مَن اختار حياةَ الرهبنة والبتولية، فإنه يُقرُّ، بكامل رضاه، بأنه قد فارق دنيانا الأرضية بكافة مباهجها، وكرَّسَ حياته كلَّها لخدمة الله.

لا يتزوج الراهبُ، اقتداءً بالسيد المسيح الذى لم يعرف النساء، ولا تتزوج الراهبةُ، تشبُّهًا بالعذراء مريم، عليها وعلى ابنها السلام. ويتخطّى الأمرُ انقطاعَ الصلة بالعالم، إلى حدِّ تنازل الرهبان والراهبات عن كل ما يمتلكونه من متاع وبيوت وأموال، وحتى الشهادات العلمية.

حتى الثوب الذى يغطّى الجسد، يرتدونه دون ملكية. وهل يمتلكُ «الميتُ» شيئًا؟!، تلك هى الرمزية النقية التى تُشكّل حياة الرهبان الصعبة. كأنما طلاقٌ كامل وتامٌّ ونهائى مع الأرض، وحلولٌ كاملٌ وتامٌّ وأبدىُّ فى السماء.

فماذا يعنى، إذن، «عيدُ ميلاد» لأحد هؤلاء الزاهدين؟! لا يعنى شيئًا لهم. لكن بوسعنا، نحن المصريين، الاحتفال بميلاد ورسامة رجل محترم أثبت وطنيته وحبّه لمصر فى المحكّات الصعبة ولحظات النوازل.

وإذن هذا المقال ليس تهنئةً بعيد ميلاد الصيدلانىّ النابه الذى نال زمالة الصحة العالمية بإنجلترا، ثم نحّى جانبًا جميع درجاته العلمية ليغدو راهبًا، ثم بطريركًا، حتى صار البابا رقم ١١٨ على كرسى البابوية المصرى، بل هو تذكِرةٌ لنا ببعض ما صنعه «البابا تواضروس» من أجل استقرار مصر، ووحدة المصريين، وعدم شتاتهم.

جميعنا نتذكّر يدَ الإرهاب السوداء التى طالت أقباطَ مصر المسيحيين، بعدما أخرجنا من جسد الوطن شوكة الإخوان المسمومة، وكأن إخوان الشيطان ينتقمون من مصرَ، ليس فقط باستهداف الجيش والشرطة والمؤسسات، بل كذلك بضرب أقباط مصر المسالمين.

لكن الأقباط، كما عهدهم دائمًا، أبدًا ما قابلوا الإساءةَ بمثلها، بل قابلوا حرقَ الكنائس وقتل المصلّين فى أعيادهم بمزيد من حب مصر، الوطن الغالى. ودائمًا كان ظهيرَهم رأسُ الكنيسة الذى يدعمُ تسامحَهم، ويُعزّزُ غفرانَهم للمسىء، ويقوّى فيهم الإصرار على وحدة الصفّ: مسلمين مسيحيين إيد واحدة فى حب مصر، وضد الإرهاب.

هذا ما عوّدنا عليه باباواتُ الكنيسة المصرية، جيلاً بعد جيل، وعهدًا بعد عهد: أن يقدّموا مصلحة الوطن على كل ما عداه، وأن يحققوا عمليًّا درسَ الوطنية، والحبّ غير المشروط لمصر أرضًا وبشرًا. يشهدُ التاريخُ لأقباط مصر معدنَهم النقى الذى لا يتبدّل مهما قدّموا من أرواح شهدائهم، فداءً لمصر. هكذا المعادن الكريمة، كلما صُهرت فى النا، ازداد نقاؤها وعلَت درجاتُ بريقها.

لا ننسى للبابا «تواضروس الثانى» لقاءه التاريخى بالمستشارة الألمانية «أنجلينا ميركل»، حين سألته عن حرق الكنائس وقتل المصلين المسيحيين وإن كان هذا معناه تمييز طائفى فى مصر واضطهاد للأقباط؟ فقال لها بهدوء وحسم «إن المصريين شعبٌ واحدة متماسك مسلمين ومسيحيين، عدوهم المشترك هو الإرهاب». ثم أخبرها بأن الأقباط تحسنت أوضاعهم بعد ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣، وأن «الجمهورية الجديدة» لا تميز بين الشعب على أسس طائفية، وهذا حقٌّ.

هكذا الوطنيون يذودون عن وطنهم ولا ينشرون ثيابهم على حبال الغرباء. رفض «البابا تواضروس»، كما رفض من قبله «البابا شنودة»، رحمه الله، أن تُحلَّ مشاكلُ الأقباط من «خارج» مصر. لأن مصر أولى بحلّ مشاكل أبنائها. تحية احترام لرجل نبيل يقود شعبًا نبيلا، لا يعرفُ سوى المحبة، التى لا تسقط أبدًا.

وبعد أيام نحتفل بعيد ميلاد الرئيس الوطنى «عبدالفتاح السيسى» الذى أكّد، منذ يومه الأول فى الحكم، أنه رئيسٌ لكل المصريين دون تمييز. يذهب كل عام فى عيد الميلاد المجيد لتهنئة الأقباط المسيحيين بعيدهم من قلب الكاتدرائية المصرية، واقفًا جنبًا إلى جنب قداسة البابا تواضروس، فى سابقة تاريخية لم يفعلها أىُّ حاكم مصرى من قبل.

تلك هى أوراقُ «شجرة المحبة المصرية» التى يتكلّم عنها الرئيس السيسى فى كلمته السنوية فى عشيّات عيد الميلاد المجيد. الشجرة التى ستظلُّ تنمو وتُزهرَ حتى تُظلّل أرجاء مصر بكاملها، بإذن الله. كل عام وكل وطنى شريف بخير فى ظل خير مصر الحبيبة.