تمت إعادة رسم الكرة الأرضية، في عصر الفضاء الراهن، بظاهرتين تاريخيتين متناقضتين غير مسبوقتين بالتحديات القوية والخيارات الكبرى التي تهز الدول والأنظمة التقليدية من جذورها، خصوصاً الحكومات الشمولية، ولو دفعتها العقول اليابسة بخياراتها نحو الاستغراق في العدائيات المفتوحة. الظاهرة الأولى هي اللحاق السريع بالعصر، والمضي فوق جادات التواصل والمعرفة والتفاعل العام، لمحاولة التنسيق بين مفاهيم الحرية والديمقراطية والمسؤولية، ومشتقاتها، أو رفض هذا الخيار بما يبقينا أسرى الاحتماء القوي بالماضي، الجامد والقاسي والوحشي، في ظاهرة ثانية.

يبدو الالتحاق اللطيف لذيذاً وغير مكلف ب«ثورات الدوت كوم» للانخراط مع الشعوب المشاركة فيها، بصرف النظر عن ألوانها وجغرافياتها، ولغاتها، وثقافاتها، واستراتيجياتها، وحضاراتها، كأنها ظاهرة كونية للبقاء المعاصر سقطت معها الحدود بين دول العالم، وولدت مفاهيم جديدة واسعة ومستقبلاً لافتاً بين الأجيال، قديمها وحديثها.

أفكّر عميقاً في أجيال الشابات والشباب، لا في مقولة الذكاء الاصطناعي الشائعة، بل في صناعات الذكاء، بعدما تمكنت تقنيات العصر الراهن من تفريغ الذاكرات البشرية وإيقاعها في التكاسل حيث التربية والمعرفة غِبّ نقرات الأصابع فوق المفاتيح، مع التنبيه الجازم بأن الذكاء البشري سيبقى أبداً لصيق الارتباط الوثيق باللغة، وإلا نقع جميعاً في معضلة عدم التفريق بين القرد والإنسان في مظاهر الذكاء، وتجلياتها بعظمة اللغة. لا تسأل أحداً لأن الأسئلة ذبلت وباتت توصم بالجهل، لأن الأجوبة منسقة وجاهزة ومتيسرة تحت أناملك في المخازن الرقمية، وهي في متناولك أسرع من البرق لمعرفة أبسط الأمور، من طقس الغد، إلى خرائط الصناعات الدقيقة والثقيلة، لكنها محكومة باللغات وطرائق التعبير. هكذا تحمر الأسئلة خجلاً، إذن، أمام اجترار الأفكار حول الغرب والشرق، والعرب والأجانب، والماضي والمستقبل، لتنتصب الأنظمة والبرامج الجاهزة الفائقة الذكاء.

يمكنني التذكير هنا، بالخروج من مركزية المخابرات إبان الحرب الباردة بين أمريكا والاتحاد السوفييتي، لما حوته من أسرار ووثائق، ودرءاً للمخاطر والتهديدات النووية، إذ كان الجباران منهمكين بالحفاظ على عظمتيهما وأسرارهما عبر ما سمي ب«مشروع لامركزية المعلومات المعروفة»، التي تعددت مراكزها وتوسعت لتشريع النوافذ الاتصالية على مصراعيها، مع تنقية مضامينها أمام الجمهور العالمي في نهايات ال1962.

قلَب العصر الفضائي المشهد العالمي، محققاً رحلة هائلة جديدة للإنسان الذي تمكن من تطويع عناصر وجوده الأربعة الأساسية، أعني التراب والماء والهواء والنار، عبر تواريخ عظيمة حقق عبرها رحلته الكشفية الطويلة والعظيمة، باختراع استطالات كانت هي في جوهر الأفكار والمنجزات الحضارية العلمية والثقافية التي تغمر البشرية.

كيف أيضاً؟ كشف الإنسان الأرض عندما تعرّف إلى جغرافياتها، واستطاع اكتشاف البقاع العذرية منها، وعرفها، وعاينها، ورسمها، وعمّمها بحدودها وحواجزها ووعورتها، وسخّرها وطوّعها لمصالحه وتطوره، ساحباً ما بجوفها من ثروات وطاقات تأميناً لتطوره، وبناء حضوره وحضارته، ثم أطلّ بعدها على البحار والمحيطات بعدما صادق الأرض وسخّرها لأحلامه ولقدراته، مسخّراً ما في أعماقها أيضاً، وحددها وطوعها وفقاً لنسق الأرض بالحروب، والقوانين، والحدود الإقليمية، وقوانين المنظمات الدولية. وكان لا بد له تحقيقاً لاستطالاته من العبور نحو الفضاء للقبض على الفضاء تحقيقاً لعنصر وجوده الثالث ليزرعه بالأقمار الصناعية، والمواقع الطيّعة في حرب النجوم واستكشاف مدى الكواكب.

لكن وللمفارقات الحزينة، أخفق الإنسان في تداخل رحلاته الطويلة الثلاث المتكاملة، في التخلص من عنصر وجوده الرابع، أعني النار، الذي كان وسيبقى العنصر القاسي الرحيم والرجيم والمقيم في هندسته الأولى عبر استطالات شديدة الإيجابية، لكنها، تبدو كأنها محكومة بشراسة الحروب الدائمة والفتك والقتل وابتكارات الأسلحة ونشر الخرائب عبر التاريخ الذي يستحيل تنظيفه.