الأميركيون حائرون. يقترحون إعادة إحياء الجثة. ولكنهم ليسوا واثقين تماما مما يمكن أن تفعله. الإسرائيليون يقولون إنهم لم يحوّلوا السلطة الفلسطينية إلى جثة من أجل تنشيطها. وضعها الراهن ملائم تماما لمخططات اليمين النازي الحاكم.

منذ السابع من أكتوبر، حتى اليوم، حوّلت قوات الاحتلال مناطق “سيطرة” السلطة الفلسطينية إلى منخل اقتحامات. ما مرّ يوم من دون هجمات جديدة في بلدة أو أخرى، وصولا إلى رام الله. لا تعرف ماذا تفعل شرطة الرئيس محمود عباس. كما لا تعرف ما إذا كان “التنسيق الأمني” قد شمل هذه الاقتحامات، أم أن قادة “القوة الأمنية” الفلسطينية قد اكتشفوا مكانهم في التاريخ. ولكن هناك شيء واحد أكيد، هو أن قوات الاحتلال لم تقتحم غرفة نوم الرئيس عباس. تركوه نائما. لا يريدون أن يقلقوا راحة الجثة.

هناك في الغرفة المجاورة لفندق السلطة، شخصيات أخرى، تبحث عن دور. أو تعتقد أنها، بمناسبة الاستعداد الأميركي للبحث عن بديل لحماس في غزة، تستطيع أن تلعب دورا، يؤكد للمراهنين على تحريك الجثة أنها سوف تتحرك بالمقدار الذي يرونه مناسبا.

حسين الشيخ أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية قال “إن يوم الحساب قادم لحركة حماس”، يقصد مسؤوليتها عن الخراب في غزة.

هناك من رأى في “محاسبة” الشيخ لحماس نوعا من تقديم “أوراق اعتماد” لإسرائيل لكي ترضى به خليفة لعباس. ومن ثم لكي ترضى بأن تلعب سلطة الجثة دورا في جدول أعمال “اليوم التالي”.

ما غاب، على أيّ حال، هو أن “اليوم التالي” لن يأتي. وجدول الأعمال غير متفق عليه. ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قال في خضم النقاش مع الإدارة الأميركية “إن غزة لن تكون (حماسستان) ولا (فتحستان)”. أي أنه لا مكان في غزة لا لعباس و”أوراق الاعتماد” لن تعتمد، مما يغني الشيخ عن الحاجة للخوض في مستنقع الأوهام. وفي هذا المستنقع لن يكسب الشيخ وعدا بأيّ شيء.

يقتضي الإنصاف القول إن الشيخ وضع محاسبته لحماس في إطار أعرض. قال “ما فيه حد يعتقد أنه فوق المحاسبة والمساءلة ويجب أن يكون هناك حوار وطني فلسطيني شامل مسؤول وأن نتحلى بالمسؤولية وبالجرأة وأن نواجه أنفسنا بكل صراحة وبكل مسؤولية ودون تردد، لا أحد فوق النقد”.

الجدير بالنقد، هو السلطة الفلسطينية نفسها.

أولا، لأنها تعرف مسبقا ما كانت تعده حماس لهذا اليوم. ربما أكثر مما تعرفه مخابرات إسرائيل.

وثانيا، لأنها لم تظهر كسلطة جديرة بالاحترام، سواء من ناحية شرعيتها الدستورية، أو من ناحية شرعيتها السياسية. دستوريا، ظلت سلطة الرئيس عباس تهرب من استحقاقات الانتخابات. وسياسيا، لم تملك خيارا آخر سوى الرهان على أوسلو، والكلام الفارغ عن “تمسّكها” بحقوق الشعب الفلسطيني بينما يفلت كل شيء من بين يديها على أرض الواقع. تلك الأرض صارت تغص بالمستوطنات تحت أنف الجثة.

اقرأ أيضا:

وثالثا، راهنت على الانقسام، وتركت غزة لمصيرها، الذي تكتب أيديولوجيا حماس مراميه وعواقبه الآن.

وفي الفراغ السياسي والإستراتيجي لبدائل المقاومة المسلحة، فقد كان من الطبيعي أن تظهر حماس وكأنها هي الجواب الصحيح. لا لشيء إلا لأنها “الجواب الوحيد”.

عباس خاطب اللجنة التنفيذية، ذات يوم بالقول “منشان الله وين هاي المقاومة الشعبية السلمية إلّي لازم نعملها”.

ولقد تشكلت لجنة فتحاوية، يعرفها الشيخ، لقيادة تلك المقاومة على اعتبار أنها بديل للمقاومة المسلحة. ثم اختفت. وقف فلسطيني ساخر ليقول لحاجز إسرائيلي بعيد “أنا مع المقاومة الشعبية السلمية. منشان الله اطلعوا من أرضنا. روحوا من هان، تظلكوش عندنا”، وعاد أدراجه مبتهجا بما أنجزه لـ”المقاومة الشعبية السلمية”. ولو أنه كان قريبا من الحاجز لأطلقوا عليه النار.

فلسفة عباس انتهت إلى القول في يوم آخر “إلّي يعتدي علينا، ما راح نعتدي عليه. راح نشتكيه إلى (لله) أولا، وبعدين، ومن ثم، نشتكيه إلى الأمم المتحدة وإلى المحاكم وإلى غيرها”.

هذه الفلسفة السخيفة، هي التي زودت حماس بكل ما تحتاجه من الثقة، بأنها هي الجواب الوحيد. ولئن كان هناك من يرى أن مَردّ هذه الفلسفة يعود إلى اتفاقات أوسلو، فالحقيقة هي أن إدارة عباس كانت هي السبب الذي جعل من تلك الاتفاقات إفلاسا سياسيا. الرجل ظل “يشتكي إلى (الله) أولا”، بينما ظلت إسرائيل تنتهك الاتفاقات، ببناء المزيد من المستوطنات في الضفة الغربية والقدس، حتى لم يعد لها أيّ معنى.

لم يبن عباس سلطة فعلية، أيضا. هروبه من الانتخابات، وتمسكه بموقعه، لم يُفقد حكومته شرعيتها أمام الفلسطينيين وحدهم، ولكنه أفقدها قيمتها أمام إسرائيل، فأسقطت دوره كمفاوض، وأمام العالم فأسقط الاهتمام بقضيته.

تحولت القضية الفلسطينية إلى مشروع تسوّل فعلي، حتى بالنسبة إلى تلقي عائدات الضرائب، وليس فقط في المناشدات التي لا يصغي لها أحد. وعلى امتداد كل الوقت، منذ توقفت المفاوضات في العام 1999، فقد كانت إسرائيل تملي على أرض الواقع ما تسعى له من تغييرات دمّرت، في النهاية، “حل الدولتين”، جغرافيا وسكانيا، في الداخل، وسياسيا في الخارج. وذلك قبل أن يتجرأ نتنياهو قبل أسابيع من حرب السابع من أكتوبر لكي يعرض على الأمم المتحدة خارطة لشرق أوسط جديد، ليس فيها ذكر لدولة فلسطينية، ولا لشعب فلسطيني أصلا.

كان من المطلوب والمفيد لإسرائيل أن تبقى جثة السلطة الفلسطينية، كما هي. وكلما بدا أنها سوف تنهار، تسارع حكومة هذا اليمين النازي بالذات لنجدتها وتخفيف الضغوط عنها.

الآن جاء الوقت لتبحث هذه الجثة عن دور. تجرأ الشيخ أيضا على أن يقدم “أوراق اعتماد” لمحاسبة حماس، قبل أن يحاسب سلطته على ما فشلت فيه.

الأميركيون يعرفون أن سلطة عباس لا تملك الشرعية، لا في غزة ولا في غيرها. يعرفون أيضا أنها غير قادرة فعليا على أن تخطو شبرا واحدا في غزة. ليس لأنها سلطة مسخرة فحسب، بل لأنه لا ينقصها لكي تدفن نفسها بالعار، إلا أن تأتي محمولة على ميركافا إسرائيلية.

لقد حان الوقت لهذه الجثة أن تدفن، من دون مأتم. حان الوقت أيضا، لكي يتاح للفلسطينيين الحق في اختيار قيادتهم بأنفسهم، وأن يحدّدوا الطريق الذي يرونه مناسبا، بإجماع وطني على شيء واحد فقط: القبول بنتائج انتخابات رئاسية وتشريعية، كائنة ما كانت.