في عصر أصبح فيه العالم أكثر ترابطاً وتداخلاً، مقارنة بأي وقت مضى، لم يعُد من الممكن تجاوز الآثار المتموّجة للأزمات الناتجة من التوترات الجيوسياسية، التي أصبحت تُنذر بمزيد من المتغيرات على صعيد العلاقات الاقتصادية الدولية، فاستمرار الصراعات الإقليمية، والمنافسة التجارية المتصاعدة بين القوى العالمية، والديناميكيات المُتقلبة في الشرق الأوسط، لا يمكن عَدّها جميعاً أحداثاً إقليمية مُجردة، بل يمكن رؤيتها بصفتها محركات تستطيع إعادة تشكيل نُظم التجارة العالمية والاستثمارات الدولية، وبيئاتها، وفَرْض واقع اقتصادي جديد، وهو ما سيكون له تأثير مُباشر - ومُقلِق في الوقت نفسه- باقتصادات العالم كُلها.

وتؤكد الأحداث الجيوسياسية أوجه الترابط المتشابك بين الاقتصادات العالمية الحديثة، التي نرى جلياً تأثيرها في إمدادات الطاقة، وتعطيل سلاسل التوريد العالمية، وإحداث تحولات كبيرة في الأسواق العالمية، بل حتى في طبيعة العلاقات بين الدول. ويمثل هذا المشهد الديناميكي تحدياً مُعقداً لصنَّاع السياسات وخبراء الاقتصاد وقادة الأعمال في شتى بقاع العالم، إذ أصبحوا يجدون أنفسهم في موقف أشبه بالمشي في طرقات وعرة ومضطربة، ويتعيَّن على مَن يريد إكمال السير منهم أن يُوجِد حلولاً بديلة، أو يتبنى حلولاً مُكلفة وجريئة للاتجاه نحو الاستقرار الاقتصادي والنمو.

وإذا تأمَّلنا تداعيات الصراع المستمر بين أوكرانيا وروسيا، فسنرى أن الدول الأوروبية وجدت نفسها في وضع محفوف بالمخاطر، فقد أدى انقطاع الإمدادات الروسية إلى ارتفاعات حادة في أسعار الطاقة، وتأثُّر أسواق السلع الأساسية، ليس داخل أوروبا فقط، بل في مختلف أنحاء العالم أيضاً. ويبين هذا السيناريو الكيفية التي قد يؤدي بها عدم الاستقرار الإقليمي إلى تقلبات اقتصادية واسعة النطاق، مثل معدلات التضخم غير المسبوقة، وأسعار الفائدة المرتفعة، والسياسات النقدية المُتشددة، والأسواق المُتقبلة، ونِسب التوظيف والبطالة المُقلِقة، كما أن المواجهة الاقتصادية بين القوى العظمى - ولا سيَّما الولايات المتحدة الأميركية والصين - أضحت تدفع نحو إعادة تشكيل ديناميكيات التجارة والاستثمارات الدولية. وتمتدُّ تداعيات هذه المواجهة إلى ما هو أبعد من حدود الولايات المتحدة والصين، التي تتَّضح أبسط صورها في تعطيل سلاسل التوريد العالمية من جرَّاء الحواجز التجارية التي وضعتها هاتان القوتان، وتأثيرها المضاعف في الاقتصادات المتشابكة معها التي انعكست على الصناعات والأسواق العالمية أيضًا.

وقد أصبحت هذه الشبكة ذات الترابط الاقتصادي المُتشعب تتطلَّب من صنَّاع السياسات وقادة الأعمال تكوين فهْم دقيق، واتباع نهج مُتقن، لإدراك الكيفية التي يمكن بها التعامل مع مثل هذه المتغيرات الجيوسياسية، ووضْع الاستراتيجيات المُتكيفة مع المخاطر، والاستفادة من الفرص المحتمَلة. وقد تكون الاستجابة الوطنية السياسية للأزمات الجيوسياسية من بين الوسائل المفصلية، ولكنَّ نجاعة مثل هذه الأدوات وفاعليّتها تبقيان مُعتمدتَين على درجة السبق في استيعاب المشهد الاقتصادي العالمي المتغير، كما أن عملية التخطيط، التي تعتمد عليها الاستجابة السياسية، يجب أن تأخذ في الحسبان تحقيق المرونة الاقتصادية، التي يجب ألا تقتصر على اتخاذ موقف أو رد فعل تجاه قضية ما، بل تشمل بناء أنظمة قادرة على الصمود والتكيف مع التحديات الناشئة والمستقبلية أيضاً.

ومن بين التوصيات الرئيسة، التي يُجمِع عليها المحللون، ضرورة أن ترتكز الاستجابة الوطنية على ثلاثة مبادئ رئيسة، أولها مرتبط بإعادة تصور الهياكل والعلاقات الاقتصادية الإقليمية والعالمية، التي يُمكن بها تجنب الاضطرابات الجيوسياسية. والمطلوب هنا هو وضع رؤى تتخطى الارتباطات الدبلوماسية، وتُركّز على التحول نحو شراكات أكثر ديناميكية ومتعددة الأطراف، وقادرة على التكيف والاستجابة للمشهد العالمي، وتقوم على مبدأ المسؤولية المشتركة، والمنفعة المتبادلة المعززة للاستقرار الاقتصادي والسلام العالمي.

والمبدأ الثاني متصل بالتنويع والاستدامة، ففي ظل الاعتماد المُفرط على قطاعات مُتقلبة، أو موارد مُحددة، ينبغي التركيز على توسيع الآفاق الاقتصادية، سواء من حيث تشجيع الأنشطة الصناعية المحلية، أو بناء الشراكات التجارية، أو التوسع في الأسواق. ويتعيَّن هنا الالتفات إلى بعض الاتجاهات العالمية، مثل التحول نحو موارد الطاقة المستدامة والمتجددة، وعَدّها خطوة استراتيجية لتحقيق هدف مزدوج، هو التقدم نحو الاستدامة البيئية، وفصل المنظومة الوطنية عن الشبكة المعقدة لأسواق الطاقة غير المستقرة المصدر.

وأما المبدأ الثالث، فمقترن بالاستثمار في الابتكار والتكنولوجيا بصفتها العمود الفقري لتحقيق المرونة الاقتصادية، والتخفيف من صدمات الصراعات الإقليمية على التجارة الدولية، وخاصة في تحصين الخدمات اللوجستية، وإدارة سلاسل التوريد، وإيجاد البدائل الاستراتيجية، وتتطلَّب فاعلية هذا التوجه التعاون بين القطاعين الحكومي والخاص على إنشاء نظام بيئي يؤطّر السياسات والقدرات التمويلية لدعم صناديق البحث العلمي، وريادة الأعمال، ومكافأة تطوير الحلول العملية في القطاعات الحيوية، مثل الطاقة المتجددة، والأمن السيبراني، والتصنيع المتقدم، بما يحقق الأهداف الوطنية ذات الصلة بتطوير القطاعات الصناعية والإنتاجية، وإنشاء فرص عمل جديدة.

وهذه المبادئ الثلاثة طبَّقتها -فعلاً- دول الاتحاد الأوروبي في خضم المواجهة الروسية-الأوكرانية، بدءاً بإعادة تقييم علاقاتها التجارية والاقتصادية، وتشكيلها، وخاصة فيما يتعلق بإمدادات الطاقة، واتجاهها إلى تقليل الاعتماد على الغاز الروسي، والبحث عن شُركاء جدد ومصادر بديلة للطاقة، ومروراً باتباع الدول الأوروبية سياسة التنويع والاستدامة بصفتها جزءاً من استراتيجياتها لتحقيق الاستقلال الطاقي، وتحسين الاستدامة البيئية، والتصدي للتغير المناخي، وانتهاءً بتأسيس الاتحاد الأوروبي أكثر من 11 صندوقاً لاستثمارات الطاقة، من بينها صندوق لدعم البحث والابتكار (هورايزن) بموازنة مستقلة تتجاوز 95 مليار يورو، في خطوة تُعد جزءاً من توجهات الاتحاد الاستراتيجية للاستثمار في الابتكار والتكنولوجيا.

وختاماً تُمثل العلاقة بين الاقتصاد العالمي، والتوترات الجيوسياسية، لوحة مُعقدة تتطلب فهماً دقيقاً، وبصيرة استراتيجية. ومن واقع المجريات الراهنة يُرجَّح أن تستمر التحديات التي تفرضها المتغيرات الجيوسياسية، وتدفع نحو إعادة صياغة العلاقات والتحالفات الإقليمية والدولية، وخاصةً في المنطقة العربية.

وتشير المعطيات الجديدة للواقع الجيوسياسي إلى أن حدَّة التغيير ستكون أكثر شدة وضراوة، وسيفرض ذلك وقوف دول العالم أمام منعطفات حاسمة، واتخاذ قرارات قد تؤدي إلى تحديد معالم هيكل الاقتصاد العالمي الجديد، وتعكس الرؤى والسياسات والأيديولوجيات المختلفة، ولا سيَّما في كيفية إدارة الاقتصادات الوطنية، وتفاعلها مع الأسواق العالمية.