في أكثر من شارع في الحي السكني الذي أعيش فيه جنوب لندن، ثمة لافتات تتصدر أبنية بطرازات مختلفة. بعض الأبنية كلاسيكية عمرها أكثر من قرن. الأخرى مبان حديثة نسبيا من السبعينات أو الثمانينات. بعضها يضع إشارات بأنه كنيسة. الآخر لا يشير إلى ذلك بوضوح. اللافتات تقول شيئا موحّدا: المسيح يناديك.

منذ وقت طويل تراجع ارتياد الكنائس في بريطانيا. القائمون عليها من قساوسة يدركون هذه الحقيقة، ولهذا يضعون لافتة النداء. هذا لا يعني انهيار منظومة القيم التي تنهل من الدين أساسا لها، لكنها تشير إلى أن المجتمعات تحركت فكريا بما يسبق الوعظ الديني البسيط أو الالتزام بالشعائر.

هذه الكنائس هي مؤسسات ثقافية واجتماعية. فرقها عن المؤسسات الثقافية الأخرى، أن الأساس فيها هو الدين. القائمون على المؤسسات الدينية في الغرب مثقفون في العموم. والوعظ الديني تطور بدوره وصار من الطبيعي أن تستمع لقس وهو يتناول قضايا البيئة أو أخلاقيات التعامل مع الذكاء الاصطناعي. لكنها تخدم هدف الإيمان بالنهاية، وتبقى في هذا الإطار.

تمكنت بعض هذه الكنائس من الصمود لأن محسنين استمروا بالتبرع لها أو تم وضع أوقاف تدعمها، من أراض وعقارات ومحال تجارية. البعض الآخر عجز عن الاستمرار وانتهى للبيع كأبنية. لدي صديق ممن اشتروا مبنى لكنيسة كلاسيكية بمبنى ذي عمارة قوطية وحوّله إلى حضانة أطفال. في شمال لندن، تحولت الكثير من الكنائس إلى جوامع وحسينيات بعد أن تم شراؤها من مؤسسات إسلامية، اجتماعية أو سياسية. اختفى نداء المسيح وحل بدلا منه "يا حسين".

يتعامل البريطانيون مع هذا التغير في الهدف من المباني الدينية كما يتعاملون مع تغير الهدف من الحانات. أعداد الحانات تتراجع كثيرا بعد أن قل عدد المرتادين مع انتشار الشاشات المنزلية الكبيرة والاشتراكات الخاصة في خدمات البث التلفزيوني وزيادة كلفة الكحول. الكنيسة التي لا تستطيع دفع فواتير الغاز والكهرباء والتنظيف والصيانة تباع. الحانة التي لا تستطيع تسديد رواتب العاملين وتحقيق الأرباح تغلق ويباع مبناها. الكنيسة مؤسسة ثقافية دينية والحانة مؤسسة ثقافية اجتماعية. لكنهما أمام تحدي الاستمرارية.

مبعث الإشارة إلى هذه المؤسسات الغربية الراسخة والتي عاشت لقرون، بل وألفيات، هو أن التغيرات تمس دور المؤسسات الثقافية والاجتماعية والناس الذين يعملون فيها ومصير ملكية مبانيها. أثار أحد الزملاء في موضوع نشرته الصفحات الثقافية في "العرب" حال المراكز الثقافية في تونس، وهو موضوع لا يختلف كثيرا عن حال المراكز الثقافية أو بيوت الثقافة في العديد من البلدان العربية. ثمة جمود في الدور لأنها مصممة لزمن مختلف. وهذا يعني أنها صارت مباني مهجورة، إلا من عدد قليل من المرتادين وموظفيها الحكوميين. الدولة هي المحسن الكبير الذي يديمها. ولكن إلى متى؟

التجديد الثقافي ينبغي أن يشمل الدور. كنيسة قريبة صارت تنظم حفلة ديسكو لكبار السن من المتدينين للتأكد من أنهم يستمرون في ارتياد الكنيسة بما يسليهم وليس فقط ما يقدم لهم من وعظ. مراكزنا الثقافية قد تحتاج إلى إعادة نظر شبيهة وأن تتحرك لاستعادة دورها الثقافي والاجتماعي وليس مجرد القول أنها مفتوحة ومخلصة لشأن ثقافي قد يكون الزمن تجاوزه. لو اقتضى الأمر نضع لافتة: المركز الثقافي يناديك.