في يوم الثلاثاء 9 يناير (تشرين الأول)، شن الحوثيون هجوماً بالغ التعقيد على طرق الملاحة الدولية في جنوب البحر الأحمر، مستخدمين عدداً كبيراً من الطائرات المسيرة، والصواريخ الموجهة، والصواريخ الباليستية المضادة للسفن. ويُعتقد أن هذه الصواريخ من صنع أو تصميم إيرانيين. وتشير قدرة الحوثيين على شن هذا الهجوم على قدرات عسكرية متقدمة، خصوصاً أنه تم ليلاً، بعد الساعة 9 مساء بتوقيت صنعاء. ووفقاً لبيان للقيادة العسكرية الأمريكية المركزية، تمكّنت القوات الأمريكية والبريطانية من إسقاط 18 طائرة مسيرة، وصاروخين موجهين، وصاروخ باليستي مضاد للسفن.
وفي اليوم التالي، تبنى مجلس الأمن قراراً يدين «بأشد العبارات» هجمات الحوثيين على السفن التجارية التي وقعت منذ 19 نوفمبر (تشرين الثاني)، وطالبهم بوقف هذه الهجمات. وتضمن القرار في طياته موافقة ضمنية على ما تقوم به الولايات المتحدة وشركاؤها من إجراءات لردع تلك الهجمات.
ومع أن هجمات الحوثيين على السفن التجارية المدنية مخالفة واضحة لمبادئ القانون الدولي، خصوصاً قانون البحار، إلا أن السرعة التي تبنى بها مجلس الأمن هذا القرار يوم الأربعاء، خلال نحو 24 ساعة من هجوم الحوثيين مساء يوم الثلاثاء، تشير إلى الكيل بمكيالين في رأي الكثيرين. فقد فشل المجلس، خلال أكثر من 90 يوماً من الحرب التي تشنها إسرائيل على غزة، في إصدار قرار بإدانة إسرائيل أو بوقف إطلاق النار، على الرغم من مقتل أكثر من 23 ألفاً من الأشقاء الفلسطينيين، وإصابة عشرات الآلاف، وتشريد مئات الآلاف. ولا شك أن ازدواجية المعايير تُضعف مصداقية المنظمات الدولية، بل تضعف الثقة بالقانون الدولي والنظام العالمي.
وبالطبع فإن جماعات مثل الميليشيات الحوثية تحرص على إبراز ازدواجية المعايير هذه وتوظفها سياسياً لمصلحتها، سواء في حربها مع المجتمع الدولي، أو في نزاعها مع الحكومة اليمنية، وهو توظيف يلاقي صدى ملموساً في اليمن وخارجه.
في شهر أكتوبر، بدأ الحوثيون في شن هجمات بالصواريخ والمسيّرات على إسرائيل، ومع أن تلك الهجمات لم تترك أثراً عسكرياً، فإن المجموعة المسلحة كسبت الكثير من ورائها سياسياً، فهي تبحث عن الشرعية التي تفتقدها. وأي شرعية أقوى من الوقوف مع أهل غزة، ولو رمزياً، وهم تحت هجوم جائر وحصار خانق من قبل إسرائيل؟ ثم بدأت الجماعة المسلحة باستهداف السفن التي تعتقد أنها متوجهة إلى إسرائيل، أو لها علاقة بها، محققة مكاسب سياسية إضافية كلما استمرت الحرب على غزة وعجز المجتمع الدولي عن إيقافها.
ووفقاً للأمم المتحدة، فإن الحوثيين بدأوا في 19 نوفمبر في توسعة نطاق هجماتهم باستهداف شركات دولية ليست لها علاقة بإسرائيل، مما أدى ببعضها إلى تغيير مساراتها من البحر الأحمر إلى رأس الرجاء الصالح، مما رفع من تكاليف النقل، بالإضافة إلى تهديد سلاسل الإمداد العالمية التي يمر الكثير منها خلال البحر الأحمر. ولا شك أن هجوم يوم الثلاثاء الكبير، وهو الهجوم السادس والعشرون من نوعه منذ 19 نوفمبر، مؤشر إلى إمعان الحوثيين في التحدي، خصوصاً أنه جاء بعد أيام من تحذيرات أطلقتها الولايات المتحدة، مع 13 دولة من حلفائها في 3 يناير، من أنها سوف تُحمّل الحوثيين «مسؤولية وتبعات» أي هجمات مستقبلية. ولم تظهر من الحوثيين أي مؤشرات بأنهم سوف يوقفون هذه الهجمات، على الرغم من هذه التحذيرات والعقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة. ولعل السبب هو ارتفاع شعبيتهم كلما قاموا بهذه الهجمات. ولهذا فمن المستبعد أن ينصاعوا إلى قرار مجلس الأمن الذي صدر يوم الأربعاء، مثلما رفضوا تنفيذ قراراته السابقة، بما في ذلك القرار رقم 2216 الذي صدر تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
ومع استمرار الجهود الدولية لوقف الهجمات الحوثية ضد السفن التجارية، فإن من الضروري أخذ نظرة أبعد مدى والسعي لتوظيف الوضع الحالي لدعم الحل السياسي للأزمة في اليمن من جهة، وتعزيز الأمن الإقليمي في البحر الأحمر من جهة أخرى، وبهما يقل خطر تلك الهجمات مستقبلاً على الملاحة البحرية، وما تسببه من أضرار ملموسة تطول الاقتصاد العربي والاقتصاد العالمي. فأولاً، يتعين تقديم دعم أكبر لعملية السلام في اليمن لإنجاح وساطة الأمم المتحدة والمملكة العربية السعودية وسلطنة عمان بين الأطراف اليمنية، خصوصاً بعد أن قدم المبعوث الأممي خريطة طريق لوقف دائم لإطلاق النار ووضع اليمن على طريق الحل السياسي. فعودة السلام إلى اليمن كفيلة باستعادة دوره في الحفاظ على الأمن البحري في جنوب البحر الأحمر. ثانياً، مع تعزيز الوجود الدولي في جنوب البحر الأحمر، أصبح من الأسهل تنفيذ حظر السلاح الذي نص عليه قرار مجلس الأمن 2216، ومن خلاله يمكن منع وصول الصواريخ أو مكوناتها، وسد الثغرات الموجودة في «آلية التحقق والتفتيش» التي وضعتها الأمم المتحدة. فعلى سبيل المثال، يتم تفتيش السفن التي تتجاوز حمولتها 100 طن فقط في ميناء جيبوتي، أما البقية فلا تمر على آلية التفتيش الذي تقوم به الأمم المتحدة. ولا تمر السفن الأصغر من ذلك على التفتيش، مع أن الكثير منها قادرٌ على حمل الصواريخ أو أجزائها. وبالإضافة إلى ذلك فإن ثمة تقارير بأن بعض السفن الكبيرة، التي تتجاوز حمولتها 100 طن، تتمكن من تفادي التفتيش في جيبوتي وتتجه مباشرة إلى الحديدة.ثالثاً، يجب تمكين مفتشي «آلية التحقق والتفتيش» من القيام بمهامهم في ميناء الحديدة نفسه، كما كان مقرراً منذ البداية، وليس فقط في جيبوتي. وبالمثل، يتعين تمكين مراقبي «بعثة الأمم المتحدة لمراقبة اتفاقية الحديدة»، التي تم تأسيسها عام 2018 بعد «اتفاق استكهولم»، من أداء أعمالهم، حيث لا يُسمح في الوقت الحاضر لهؤلاء المسؤولين الأمميين بأداء واجبهم في ميناء الحديدة. رابعاً، يمكن أن يساعد الوجود الدولي مقابل سواحل اليمن على جمع المعلومات الضرورية عن التحركات العسكرية ومخالفات الهدنة ومنع انهيارها أو إضعافها، حيث تستمر انتهاكات الهدنة دون وجود معلومات دقيقة عنها لمنعها أو إيقافها بعد وقوعها. خامساً، من المهم تطهير المنطقة المقابلة للساحل اليمني من الألغام البحرية التي تشكل تهديداً خطيراً للملاحة الدولية وللمدنيين. سادساً، هناك حاجة ملحة لدعم قدرات قوات خفر السواحل اليمنية، وهو ما نص عليه قرار مجلس الأمن الصادر يوم الأربعاء، وذلك «لتمكينها من حماية سيادة الدولة وسلامة أراضيها».
فهذه التدابير، ومعظمها سبق أن صدرت بها قرارات أممية، يمكن أن تسهم في خفض التصعيد وانخراط الأطراف في العمل السياسي، وفي الوقت نفسه احتواء التهديد القائم حالياً للملاحة البحرية في البحر الأحمر. فلا شك أن عدم تنفيذ تلك القرارات قد أوصل الأمور إلى ما هي عليه في الوقت الحاضر.
التعليقات