صدر العدد الأول من أشهَر جريدة مصرية، لا بل وعربية، «الأهرام»، في أغسطس/آب 1876، في المنشيّة بالإسكندرية. كانت في البدء صحيفة أسبوعية تصدر كل يوم سبت، وبعد شهرين من تأسيسها تحوّلت إلى يومية، قبل أن ينتقل مقر إصدارها إلى العاصمة، القاهرة. ولم يكن صدور «الأهرام» مجرد تأسيس جريدة، وإنما مدرسة في الصحافة لم تكن معروفة في عالمنا العربي، ومع مرّ السنين تحوّلت «الأهرام» إلى مؤسسة إعلامية وثقافية وبحثية كبيرة، عنها يصدر عدد من الدوريات، والبحوث والدراسات.

نأتي على ذكر «الأهرام»؛ لأنها واحد من الأمثلة التي استشهد بها المفكر العراقي عبدالجبار الرفاعي في محاضرة ألقاها، قبل أيام، في القاهرة ضمن فعاليات الدورة ال 55 من معرض كتابها الدولي المقامة حالياً، تحت عنوان «الدنيوي والديني في علم الكلام»، وهو يشير إلى أهمية التراكمات في صنع التحولات، والمغزى ليس فقط في الصدور المبكر ل «الأهرام»، وإنما في استمرار صدورها كل هذه العقود، وتحوّلها من مجرد صحيفة محدودة الصفحات تصدر كل أسبوع، إلى جريدة يومية واسعة الانتشار، وإلى مؤسسة كبرى. ولاحظ الرفاعي أن هذا النوع من التراكم يكاد يكون معدوماً في البلدان العربية الأخرى.

الحق أن «الأهرام» ليست سوى مثال، فما يصح عليها يصح على ظواهر فنية وثقافية وفكرية عديدة في مصر، كان لمن أنشأوها شرف الريادة، لتؤسس، في حياتهم وبعد مماتهم، لتقاليد باتت لها جذورها الراسخة في المجتمع، وفي تشكيل هوية الوطن وثقافته، وفي قوّة تأثيره في محيطه العربي. ونتفق مع صديقنا الرفاعي في أن الكثير من مجتمعاتنا العربية عانت وتعاني مما نريد وصفه بحالات القطيعة بين الأجيال المختلفة، لا في مجال الثقافة وحدها، وإنما في مجالات أخرى أيضاً، فما أكثر ما نجد الأجيال الجديدة تكاد تبدأ في كل مرة من جديد، غير ملتفتة إلى إنجازات الأجيال الأسبق، وإلى تجاربها بسلبياتها وبإيجابياتها، للبناء على الأخيرة، وتفادي تكرار الأولى.

بالمثل الذي ضربه الدكتور الرفاعي في مستهل محاضرته عن «الأهرام» أراد قول شيء آخر لا يقل أهمية، فرغم ما شهدته مصر من تحولات سياسية طوال العقود الممتدة منذ صدور الصحيفة، تحوّلت خلالها البلاد من ملكية إلى جمهورية، ومرّت بحروب ومنعطفات، فإن هناك ثوابت بقيت راسخة، لم تعصف بها التحولات، ليصل إلى الخلاصة الأهم، ألا وهي مركزية الدولة كبنى ومؤسسات؛ حيث حافظت على رسوخها كضامنة لوحدة البلاد وهوية المجتمع، فما شهدناه، عربياً، خلال العقد الأخير، يظهر ما انتهت إليه الأحوال في عدد من دول عربية مفصلية تصدعت فيها الدولة، لا بل وانهارت أحياناً، والأمثلة أمامنا واضحة وضوح النهار.