هناك ظاهرة سوسيو - ثقافية تحضر وتنمو بصورة متواترة وسريعة في أوساط النخب الإبداعية العربية، خصوصاً بين الأدباء، ويحدث هذا منذ عشريتين تقريباً، أي مع مطلع هذا القرن الجديد.

تتمثل هذه الظاهرة في مسألة "التعارف" بين الكتاب والأدباء العرب، إذ أصبح الكتاب يعرفون بعضهم بعضاً وكأنما هم يعيشون في حارة واحدة، أو في فندق واحد، كأنما هم في مقهى شعبي أو بار صباحاً مساء، يعرف الواحد ما يأكله الآخر وما شربه المفضل وما يحلم به وحتى ماركة ما يلبسه.

تستحق منا هذه ظاهرة "التعارف" بين الكتاب التوقف والتحليل لما لها من انعكاسات كبيرة وعميقة على الواقع الثقافي والأدبي والإعلامي وعلى مجتمع المثقفين والنخب الإبداعية وحتى على المؤسسات الثقافية وعلى الجوائز الأدبية التي بدأت تتكاثر وتتنافس وتتصارع في أشكالها المختلفة.

علاقة التعارف هذه، أفرزت مجموعة من الأمراض الثقافية ومصفوفة من السلوكات التي تؤثر سلباً في دور المثقف ضمن مجتمعه وفي علاقته بنصوصه وبنصوص الآخرين ممن حوله.

من الحوار الثقافي العالي في الستينيات والسبعينيات إلى حديث الحمامات الشعبية والمقاهي في الألفية الثالثة.

في الستينيات وإلى منتصف سبعينيات القرن الماضي، كان الكتّاب، والمثقفون بصورة عامة، يلتقون في بيروت، فيكون الحوار حول تجارب المجلات الراقية، مجلة مواقف ومجلة شعر ومجلة الآداب والطريق وغيرها، وحول الحداثة التي تزحف في نصوص سعيد عقل ويوسف الخال وأنسي الحاج وأدونيس والماغوط وسنية صالح وبسام حجار، وحول ظاهرة النجومية الأدبية مع نزار قباني، وحول النشر اللبناني الذي كانت تقوده دور نشر عالية الجودة والاختيار، وحول ترجمة كتب الوجودية والماركسية، وحول اليسار السياسي المثقف من جورج حاوي مروراً بإبراهيم محسن إلى إسماعيل عبدالفتاح في اليمن، كان الحوار عالي المقام.

وفي القاهرة يحدث أن يلتقي الكتاب فيتداولون في أمور الرواية والقصة القصيرة والشعر، فحديث حول نجيب محفوظ والرقابة، وإحسان عبدالقدوس وعلاقة الرواية بالسينما، وصلاح عبدالصبور وعلاقة المسرح بالشعر، والواقعية في قصص يوسف إدريس، ومحمود أمين العالم وعلاقة النقد الأدبي بالأيديولوجيا، ونوال السعداوي والحديث عن حرية المرأة والمساواة والحجاب، يحدث أن يلتقي هؤلاء الكتاب في غمرة التحولات الثقافية التي كان يعرفها المجتمع بعد حربين أساسيتين هما حرب يونيو (حزيران) 1967 وحرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973، ويلتقي الكتاب فيسمع الجيل الجديد تجربة الجيل السابق عليه في الإعلام الثقافي والأدبي وفي محنة الكاتب والسجون والكتابة والتحولات الاجتماعية التي يعرفها المجتمع المصري، فتكون هذه اللقاءات مدرسة أدبية حقيقية وورشة للأقلام الصاعدة.

يلتقي الكتاب العرب في مدينة الجزائر العاصمة، بعضهم جاء إلى الجزائر هارباً من قمع بعض الأنظمة وبعضهم جاءها لاكتشاف بلد قاد ثورة نموذجية واستحق بجدارة الاستقلال والحرية، يلتقون في مقهى "اللوتس" أو "طانطان فيل" للحديث عن حياة وموت الثورات وعن جميلة بوحيرد وعن حركات التحرر في أفريقيا وعن الجنرال فو نغوين جياب العظيم وقيادة الحروب الناجحة وعن سعدي يوسف الذي فضل الإقامة في مدينة سيدي بلعباس على بعد 500 كيلومتر غرب العاصمة وهو يخوض تجربة شعرية حداثية فريدة في علاقة مع الفلاحين في القرى الاشتراكية، وعن الروائي حيدر حيدر المقيم في عنابة على بعد 500 كيلومتر شرق العاصمة وهو في عزلته يجرب سرداً آخر وجرأة في الكتابة غير مسبوقة، وعن الفيلسوف المغربي عزيز الحبابي الذي يشتغل أستاذاً للفلسفة بجامعة "الجزائر"، وعن أحمد المديني القاص والروائي المغربي الصاعد الذي يعمل أستاذ اللغة العربية بثانوية بالجزائر العاصمة، وعن كاتب ياسين والمسرح الشعبي وعن رشيد بوجدرة والانقلاب في الكتابة الروائية باللغة الفرنسية، بخاصة في روايته المدهشة التطليق، وعن جان سيناك الشاعر والمجاهد الثوري الذي أحب الجزائر حباً مجنوناً، وعن أحلام مستغانمي وصوتها الهامس في الإذاعة الوطنية ونصوصها الشعرية الجريئة، وعن تجربة التعريب غير العلمية والحماسة السياسية والأيديولوجية التي ترافقها، كانت اللقاءات هي نفسها قصائد شعرية.

في بيروت والقاهرة والجزائر كان الكتّاب يلتقون في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، فكانت لقاءاتهم عبارة عن جلسات ثقافية أكثر أهمية من محاضرات مدرجات الجامعة، وفيها كانوا يصنعون الحلم لمجتمعاتهم.

اليوم ونحن في الربع الأول من القرن الـ 21، يلتقي الكتاب في مجلس يشبه حمّاماً شعبياً مليئاً ببخار لغط الكلام حول الجوائز الأدبية، الجميع يلهث وراء الجوائز والجميع يسبّها إلى حين، لا نسمع نقداً موضوعياً لرواية حصلت على جائزة، سواء بالإيجاب أو السلب، ولكننا نسمع أحاديث عن سبب إقصاء هذه الرواية أو هذا الاسم أو ذاك، فيتحدثون عن لجان التحكيم أكثر مما يتحدثون عن النصوص التي يتم اختيارها، ويتحدثون عن الكاتب أكثر من الحديث عن النص الفائز، ويتحدثون على المباشر وعبر وسائل التواصل الاجتماعي التي زادت الطين بلّة كما يقال.

في مثل هذه الأجواء التي يلتقي فيها الكتاب تتشكل الشللية الثقافية والإعلامية وتتوسع فرق الانكشارية الثقافية والأدبية لتجهز على ما تبقى من أمل في تغيير حال هذه اللقاءات، ويتراجع الخطاب الجمالي والأدبي والفلسفي والفكري لمصلحة تصفية الحسابات الشخصية والحساسيات الفارغة.

وحين يعيش الكتاب مثل هذا الوضع المعطوب تتحول حياتهم إلى جحيم يقضي الواحد يومه وأسبوعه وعامه في مراقبة تصرفات الآخر، والتلصص على سلوكاتهم الشخصية بدلاً من متابعة ما ينتجونه من كتب ونصوص سردية أو شعرية أو فكرية.

وزادت ظاهرة معارض الكتب التي تقام تقريباً بمعدل مرة كل أسبوع في عاصمة عربية أو مدينة كبيرة في هذا البلد أو ذاك، زادت، في استفحال هذه الظاهرة، حيث الدعوات توجه إلى الأسماء نفسها أو مع تعديل طفيف في هذه القائمة أو تلك، فيتكرس التعارف المريض بين الحاضرين في أدق التفاصيل، وفي كل معرض يستعيد الكتاب المواضيع ذاتها ويأكلون لحم بعضهم بعضاً حياً، فتعظم ثقافة النميمة وتختفي الحوارات الثقافية والأدبية العالية والمطلوبة وتتراجع أخلاق الكاتب ويتراجع الجمال.

من دون شك، فمعارض الكتب تشكل أهمية ومناسبة جميلة للقراء وللترويج للكتب، وتشكل في الوقت نفسه متنفساً ثقافياً في المدينة وفي البلد، وأعتقد بأنه، ونظراً إلى تدوير قائمة أسماء المدعوين نفسها، فإن شعلة المعارض بدأت تخمد أكثر فأكثر والتنوع يغيب عنها أكثر فأكثر، والخطاب يتكرر بتكرار الحضور نفسه.

إن التعارف بين الكتاب بالصورة التي هو عليها في العالم العربي لا يدفع الثقافة والحوار الأدبي إلى الأمام وإلى العمق بل، سنة بعد أخرى، يهوي بمشروع مجتمع المثقفين إلى القاع الذي من المفروض أن يكون ظاهرة إيجابية وطريقاً نحو تمكين صوت المثقف في المشاركة في عملية التغيير الاجتماعي والسياسي والثقافي.

ظاهرة التعارف بين الكتاب العرب ظاهرة ثقافية غريبة وهي خاصة بهم من دون سواهم من الشعوب، ففي البلدان الأوروبية قد يعيش الكاتب مع كاتب آخر في المدينة نفسها وربما في الحي نفسه، ولكن لا أحد، أو نادراً، يبني علاقة مع الآخر بالصورة التي عليها تبنى العلاقة بين الكتاب العرب، فالعلاقة الموجودة عند الآخر هي علاقة القراءة والاشتراك في مشروع أدبي شامل بمعزل عن تفاصيل الحياة الشخصية والمنافسة المرضية.