مخطئ من يعتقد أن عمليات التدمير الممنهج الذي تمارسه إسرائيل في غزة على نطاق واسع وشامل يأتي فقط رداً على عملية (طوفان الأقصى). لا أبداً، فقد بات اليوم واضحاً للعيان بعد مرور أشهر على العملية وطريقة الرد الإسرائيلي عليها أن الهدف ليس فقط الانتقام، بل صار المخطط الإسرائيلي واضح المعالم تماماً، خاصة بعد تدمير السواد الأعظم من غزة ودفع غالبية سكانها خارج مناطقهم ومنازلهم. هذا ليس مجرد رد إسرائيلي غاضب على ما فعلته حماس، بل هو تنفيذ مفضوح لمخطط تهجير لم يعد يخفى على أحد تؤكده طبعاً التهديدات الإسرائيلية المتواصلة لاجتياح منطقة رفح. وكلنا طبعاً يسمع كل يوم عن تفريغ قطاع غزة من سكانه ودفعهم في اتجاه سيناء المصرية أو أي وجهة يتفق عليها الإسرائيليون مع أمريكا وأوروبا والعرب.
لا شك أن الفلسطينيين سيظلون متمسكين بأرضهم حتى الرمق الأخير، وسيرفضون الدخول في (تغريبة) جديدة، لكن عندما ننظر إلى عمليات التدمير الشامل والإبادة، لن يبقى أمامنا أي شك بأن العودة للعيش في القطاع ستكون شبه مستحيلة، إلا في مخيمات، وهذا ما لا تقبله إسرائيل ولا داعموها. وبالتالي، فإن موجة جديدة من الشعب الفلسطيني تنضم اليوم إلى موجات اللاجئين السوريين والعراقيين واللبنانيين من قبلهم. بعبارة أخرى، يجب ألا ننظر إلى تهجير الغزاويين، وربما سكان الضفة لاحقاً، على أنه مجرد نتيجة لعملية (طوفان الأقصى) بل هو في الحقيقية جزء لا يتجزأ من مشروع تهجير وتغيير ديمغرافي يشمل سوريا والعراق ولبنان وربما غيره لاحقاً. أليس الأردن نفسه في خطر ويواجه تهديدات مستمرة؟ ماذا يفعل الحشد الشيعي على حدوده منذ أشهر ولمصلحة من؟
هل نحتاج إذاً إلى إثباتات وبراهين على أن المنطقة تخضع اليوم إلى إعادة رسم ديمغرافياً؟ هل عمليات التهجير والتغيير السكاني الذي تشهده سوريا منذ عام ألفين وأحد عشر حتى هذه اللحظة مجرد نتيجة للصراع؟ بالطبع لا، فهناك مؤشرات وبراهين فاقعة على أن الأمر برمته مدبر ومنظم، وتشارك فيه قوى متعددة دولية وإقليمية وعربية، وحتى النظام السوري نفسه متورط فيه. كم عدد السوريين الذين خرجوا من سوريا إلى أوروبا أو غيرها أو البلدان المجاورة؟ كم عدد السوريين الذين نزحوا من مناطقهم ولجأوا إلى مناطق سورية أخرى؟ كم بقي مثلاً من سكان ريف دمشق أو حمص؟ هل يمكن أن يعودوا إلى مناطقهم لاحقاً، أم أنه بات شبه مستحيل؟ من عاد مثلاً إلى مدينة داريا التي أفرغها النظام من كل سكانها بتواطؤ دولي مفضوح؟ كم عدد اللاجئين السوريين وهم حوالي نصف الشعب السوري تقريباً الذين سيسمح لهم بالعودة إلى سوريا؟
الجواب كان واضحاً جداً في نصيحة الجنرال عصام زهر الدين أحد أذرع النظام قبل أن تصفيه (القيادة الحكيمة) بأشهر قليلة. قال للاجئين حرفياً: «نصيحة من هالذقن لا ترجعوا، وإلا سنفعل بكم الأفاعيل». وهو طبعاً لا يقدح من رأسه، بل يتكلم باسم النظام مباشرة، وهذه رسالة مباشرة من النظام أن سوريا اليوم في إطار إعادة التغيير الديمغرافي.
هذا ليس مجرد رد إسرائيلي غاضب على ما فعلته حماس، بل هو تنفيذ مفضوح لمخطط تهجير لم يعد يخفى على أحد تؤكده طبعاً التهديدات الإسرائيلية المتواصلة لاجتياح منطقة رفح
وهذا ما أكده بشار الأسد بعظمة لسانه في أكثر من مناسبة، فقد قال في أحد المؤتمرات إن سوريا اليوم أصبحت (مجتمعاً متجانساً) بعد أن تخلصت من ملايين السوريين الذين كان يعتبرهم بشار ونظامه غير متجانسين مع سوريا التي يريدها هو ومشغلوه في أمريكا وإسرائيل. وللتأكيد على هذه الحقيقية، عاد بشار وأكد قبل أسابيع قليلة على أن نظامه ربما لم ينتصر في الحرب، لكن أهم إنجازاته أنه حقق (المجتمع المتجانس) بعد تهجير حوالي نصف الشعب السوري.
ولا تقتصر عمليات وأساليب التهجير في سوريا على الأدوات والممارسات الوحشية والاحتلال العسكري والقصف العشوائي للمدنيين واقتلاعهم من ممتلكاتهم، بل تتعدى وتشمل أساليب وممارسات ناعمة وغير مباشرة كالتجويع والإفقار والإذلال واحتكار السلع الأساسية والمواد الغذائية، لا بل سرقة المعونات الأممية ونهب الممتلكات ومصادرة وحرق أصول وأراض وعقارات المواطنين وبيعها وتسجيلها لجهات مجهولة ومشبوهة والانقضاض على المنشآت والمؤسسات العامة وتفليسها وإغلاقها وتسريح عمالها وسرقة الثروات الوطنية وتهريبها للخارج وتسخير كل موارد البلد لصالح العائلة المالكة وأقاربها والتنكيل الأمني الممنهج للمواطنين ومطاردة الشرفاء والأحرار والمفكرين والإعلاميين والمثقفين وتغييبهم في السجون ونفيهم خارج الحدود، وهذا أقل ما يمكن رصده من ممارسات النظام السوري الفاشية التي يقوم بها منذ سنوات طويلة والتي ساهمت في تهجير خمسة عشر مليون مواطن سوري تشردوا في أصقاع الأرض. ولا داعي للحديث عن عمليات حرق مناطق واسعة في الساحل السوري وتهجير سكانها ومن ثم بيعها لوكالات دولية. وكل ذلك يصب في طواحين الخارج والقوى الإقليمية ذاتها التي تقصف المدنيين في غزة وتقتلهم وتدفعهم جنوباً في اتجاه سيناء وتخدم وتتساوق مع ذات المشروع الذي يتكامل وتضيق حلقاته على عدة محاور وجبهات تساهم مجتمعة في إنضاج وبلورة وإنجاز المشروع الاستيطاني. ولا شك أن الحبل عالجرار، أي أن المخطط لم يكتمل بعد، فعمليات التجويع والتنكيل المنظم بمن بقي من السوريين داخل سوريا أكبر دليل على أن النظام ومشغليه يريدون للمزيد من السوريين أن يخرجوا من سوريا. واليوم كما تعلمون أسهل شيء هو الحصول على جواز سفر للهرب من الجحيم المنظم بهدف إفراغ سوريا من أكبر عدد من سكانها. وكل الكلام عن عودة اللاجئين هو للضحك على الذقون وذر الرماد في العيون.
وكي لا نذهب بعيداً، تعالوا ننظر إلى ما يحصل في لبنان منذ سنوات. صحيح أن لبنان لم يتعرض لعمليات تدمير وتخريب منظمة كما حصل في سوريا، لكن عمليات التهجير تحدث بطريقة غير مباشرة عن طريق تمكين عصابات إيران من رقبة اللبنانيين وتحويل حياة الملايين منهم إلى جحيم، وخاصة بعد أن سرقت البنوك كل مدخراتهم وحولت الملايين منهم إلى فقراء وتعساء بمباركة خارجية، مما حدا بمئات الألوف إلى ترك البلاد ضمن مشروع التهجير المنظم الذي ينتقل من بلد إلى آخر بشكل مفضوح.
ولا ننسى أن العملية كانت قد بدأت أصلاً بالعراق بعد الغزو الأمريكي الذي أدى إلى تهجير أكثر من ستة ملايين عراقي وقتل مئات الآلاف وإعادة رسم الخارطة العراقية على أسس طائفية. وهذا ما اعترف به من قبل حاكم العراق الأمريكي (بريمر) الذي قال حرفياً إننا جئنا إلى العراق لتغليب طائفة على أخرى، وهذا يعني ضمناً التهجير وإعادة رسم الخرائط الديمغرافية، بما يخدم الاستراتيجية الغربية الكبرى في المنطقة.
هل يا ترى بعد هذا المخطط المفضوح من عمليات التهجير والتغيير السكاني المنظم في المنطقة، سيكون وضع أهل غزة أفضل من وضع السوريين والعراقيين واللبنانيين، أم إن ما يحدث في غزة هو جزء لا يتجزأ من المسلسل ذاته؟ هل نشهد اليوم تنفيذاً لنصيحة رئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل آرييل شارون في مذكراته بأن يكون ساكنو كل المناطق العربية المحاذية لحدود إسرائيل من فئة معينة؟
التعليقات