منذ صدور وعد وزير خارجية المملكة المتحدة آرثر بلفور عام 1917 بدعم إقامة «وطن قومي للشعب اليهودي» في فلسطين الخاضعة حينذاك للانتداب البريطاني، ومروراً بكل ما قدمته حكومة الانتداب من مساعدات هائلة للمجموعات والعصابات اليهودية والصهيونية لتحقيق «الوعد»، وصولاً إلى إعلان قيام «دولة إسرائيل» عام 1948، وطوال ثلاثة أرباع القرن من عمرها، عرف العالم وعرفت إسرائيل نفسها بصورة بدت مستقرة وغير قابلة للاهتزاز أو التغير.

قامت الصورة التي روجتها إسرائيل عن نفسها وشاركها العالم الغربي، الأوروبي والأمريكي، في نشرها على أوسع نطاق، على عدة أركان ودعائم. كانت الدعامة الأولى الأكثر تأثيراً هي جرائم الحرب والإبادة التي مارستها ألمانيا النازية قبل وأثناء الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)، تجاه العديد من المجموعات البشرية والقومية ومنهم اليهود، ما جعل مساندة إسرائيل من دول الغرب بمثابة «تعويض» لشعبها اليهودي عما جرى لهم وباعتبارها «دولة المضطهدين والمظلومين». وظلت «عقدة الذنب» الغربية هذه قائمة طوال عمر إسرائيل وراء مساندتها الكاملة، حتى في أكثر أوقات توسعها الاستعماري واعتداءاتها العسكرية على جيرانها واضطهادها المتواصل ومتعدد الأشكال للشعب الفلسطيني.

وهنا تأتي الدعامة الثانية لصورة إسرائيل «الإيجابية» منذ تأسيسها لدى قطاع من الدول الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية ذات الأنظمة السياسية الديمقراطية التعددية، باعتبارها بحسب رأيهم، الدولة المتفردة في منطقتي الشرق الأوسط والعالم العربي وأفريقيا، بتبني النموذج السياسي «الديمقراطي»، بينما يغرق كل جيرانها في أعماق الأنظمة الاستبدادية والمغلقة والطائفية، وغيرها من أنظمة الحكم غير الديمقراطية. وظلت لافتة «واحة الديمقراطية» الوحيدة معلقة على أبواب «دولة إسرائيل»، لتعتبرها دول الغرب الديمقراطية النموذج الذي يشع بقيمه وممارساته الديمقراطية على المنطقة كلها، والتي يجب على دولها أن تتخذها مثالاً لها.

وعلى جانب آخر من الصورة، رأى قطاع من الدول الأوروبية وغيرها من الدول ذات نظم الحكم الاشتراكية، في «دولة إسرائيل»، وخصوصاً في فترة التأسيس ولأربعة عقود بعدها على الأقل، كنموذج لدولة «الاشتراكية التعاونية».

فقد كان قيام هذه الدولة على المستوطنات والمستعمرات والقرى الزراعية الصغيرة المتناثرة على أراضي فلسطين التاريخية، والمعروفة باسم «الكيبوتس» و«الموشاف»، ذات المظهر التعاوني الاشتراكي المعروف حينذاك في العالم، هو مكون آخر للصورة الإيجابية لدولة إسرائيل لدى هذا القطاع من دول العالم.ظلت صورة «إسرائيل الأولى» الإيجابية السائدة هي تلك المرتبطة بالأبعاد المشار إليها، واستمرت تتمتع بدعم غربي غير متكرر مع أي دولة أخرى في العالم غيرها، واستثمرت حكوماتها المتعاقبة من يسارية ويمينية هذه الصورة بكل الأشكال المتاحة، حتى وهي في أشد أوقاتها عدوانية وتوسعاً.

ولكن الشهور الستة التي مرت منذ السابع من أكتوبر العام الماضي، وما شهدته من حرب دموية وحشية شنتها إسرائيل على قطاع غزة وبصورة أقل حدة على الضفة الغربية، أدت وبصورة حاسمة وغير مسبوقة إلى الإطاحة شبه الكاملة والنهائية بتلك الصورة «المثالية» لها في مختلف أرجاء العالم. فقد انتهت وإلى الأبد صورة «دولة المضطهدين والمظلومين» النمطية، لتحل محلها حقيقة دولة المعتدين مرتكبي جرائم الحرب والإبادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني في غزة، ودولة التوسع الاستيطاني المخالف للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة في الضفة الغربية.

وحتى مشهد إسرائيل «الديمقراطية» المدنية والاشتراكية أحياناً، والذي خيم على العالم لثلاثة أرباع القرن، راح يتهاوى مع هيمنة قوى اليمين والتطرف الديني اليهودية على الحكومة وأجهزة الدولة، الأمر الذي أدى للمرة الأولى بالرئيس الأمريكي جو بايدن إلى وصف حكومتها الحالية بالأكثر تطرفاً في تاريخ إسرائيل داعياً إلى تغييرها، وهو ما اتبعه فيه عدد آخر من المسؤولين الأمريكيين والأوروبيين، وبدت صورة الدولة الدينية اليمينية المتطرفة هي الأكثر التصاقاً اليوم بإسرائيل.

لقد دار الزمان دورته الكاملة، ونحن الآن أمام صورة «إسرائيل الأخرى»، وهي تلك التي لا تمت بصلة كبيرة بإسرائيل الأولى التي هيمنت صورتها الإيجابية على العالم الغربي أوروبياً وأمريكياً منذ تأسيسها.