لا بد من وقفة عند الإطار الزمني لنقد الطبيب حسين الهرّاوي للمستشرقين، وهو النقد الذي كان مدار تعليقي على الموضوع الذي نقلته من كتاب مارسيل كولمب (تطور مصر 1924- 1950) في المقال السابق، للأهمية الزمنية لنقده في تاريخ نقد الاستشراق في العالم العربي، من الناحية الدينية الإسلامية.

في كتابه النقدي النوعي (ثقافات الخمينية، موقف من الاستشراق أم حرب على طيف؟) الصادر عام 1995، خصّص حازم صاغية فصلاً منه لتناول قضية (نشأة العداء للاستشراق) في العالم العربي وفي العالم الإسلامي. في هذا الفصل، فصل (نشأة نقد الاستشراق)، ربط حازم صاغية نقد الهرّاوي بمناسبة، وهي صدور (دائرة المعارف الإسلامية) التي كتبها مجموعة من المستشرقين عام 1936.

في حين أن ما كتبه حسين الهرّاوي في نقد المستشرقين يرجع تاريخه إلى عام 1932 وإلى عام 1933 وإلى أول شهر من عام 1934، وليس إلى عام 1936، كما ظن حازم صاغية.

هذا الخطأ أتى إليه من قبل المصدر الذي اعتمد عليه، وهو الحلقة الثانية من دراسة ميشال جحا (المستشرقون في الميزان) المنشورة بجريدة (الحياة) في 15/9/1993، فميشال جحا في دراسته هذه التي ذكر حازم صاغية أنها منشورة في خمس حلقات بجريدة (الحياة)، اعتمد على كتاب (المستشرقون والإسلام) لحسين الهرّاوي الصادر عام 1936، واعتقد أن هذا الكتاب تأليف، ولم يعلم بأنه جمع مقالات منشورة بأكثر من مطبوعة مصرية.

وقد يكون المسؤول الأول عن هذا الغلط في هذه المعلومة هو حسين الهرّاوي، ففي خواتيم الفصل الأول نص على أن الكتاب تأليف، ولم يبين أنه جمع لمقالات منشورة في أكثر من مطبوعة، مع أن في الكتاب بعض إشارات يدرك القارئ من خلالها أن الكتاب جمع لمقالات سبق أن نشرت.

لهذا وقع بعض الباحثين المتأخرين الذين أشاروا إلى كتاب (المستشرقون والإسلام) في هذا الغلط؛ بل إن أديباً وناقداً من المتقدمين وقع بهذا الغلط الذي يقع به بعض الباحثين المتأخرين. ففي مجلة (الحج) في العددين التاسع والعاشر، السنة الثانية، ربيع الأول والثاني 1368هـ/ يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) 1949م كتب عبد الله عبد الجبار تعريفاً متأخراً بكتاب (المستشرقون والإسلام)، وفي هذا التعريف المتأخر به قدمه على أنه تأليف لا جمع مقالات.

وضاعف من حجم هذا الغلط أن معدّي (المجموعة الكاملة للمفكر والأديب الناقد عبد الله عبد الجبار) محمد سعيد طيب، وعبد الله فراج الشريف، أدرجا هذا التعريف المتأخر بكتاب حسين الهرّاوي في المجلد الخامس المخصص لمقدمات كتبها عبد الله عبد الجبار لغيره. وكان عنوان إعادة نشر هذا التعريف المتأخر بالكتاب في المجلد الخامس (مقدمة كتاب «المستشرقون والإسلام» تأليف الدكتور حسين الهرّاوي) مع أن الكتاب صادر عام 1936، ولم يطبع طبعة ثانية، لا في حياة حسين الهرّاوي ولا بعد مماته.

وفي تقديري أن هذا الغلط المضاعف المسؤول عنه الراحل عبد الله فراج الشريف، فهو كاتب إسلامي محترف، عُدّته الثقافية والتربوية النهل من أدبيات الإسلاميين. ففي بعض كتبهم إشارة إلى كتاب حسين الهرّاوي، ولم يذكر أحد منهم أن الكتاب قدم له عبد الله عبد الجبار. وأنور الجندي في بعض كتبه الإسلامية أشار إلى هذا الكتاب وإلى معركة الهرّاوي مع المستشرقين في مطلع ثلاثينات القرن الماضي. والأهم أنه هو الكاتب الوحيد الذي كتب ترجمة لحسين الهرّاوي في المرحلة التي كان يغلّب فيها الجانب الأدبي والتاريخي على الجانب الديني. هذه الترجمة تضمنها كتابه (أعلام وأصحاب أقلام) الصادر في أواخر ستينات القرن الماضي.

الخطأ الآخر في معلومة حازم صاغية التي بنى عليها استنتاجه بأن سبب نقد الهرّاوي للمستشرقين هو صدور (دائرة المعارف الإسلامية)، هو قوله: إن هذه الموسوعة صدرت عام 1936.

(دائرة المعارف الإسلامية) أو (Encyclopaedia of islam) بدأ العمل بها من عام 1899. وإلى ديسمبر (كانون الأول) 1913 كان قد صدر منها باللغات الألمانية والإنجليزية والفرنسية -حسبما يذكر محمد كرد علي في جريدته (المقتبس)- عشرين كراساً. وإلى عام 1932 كان قد صدر منها 28 مجلداً، ومع مجلد الفهرس يصبح عدد المجلدات 29 مجلداً. وفي عام 1938 صدرت بعد الاختصار والتلخيص في أربعة مجلدات. وقبل صدور الطبعة الثانية منها، صدرت في عام 1953 مختصرة بمجلدين.

الذين قرأوا هذه الموسوعة حين كانت تصدر في كراسات بإحدى اللغات الثلاث التي كُتبت بها، والذين سمعوا بخبرها في العالم العربي ممن لا يقرأون بغير اللغة العربية، لم يعترض أحد منهم عليها مستنكفاً بأن مجموعة من غير المسلمين يكتبون موسوعة عن الإسلام؛ بل إن محمد كرد علي كان أبرز المحتفين بها. ففي 1 مايو (أيار) 1907 نشر خبراً في جريدته (المقتبس) بشّر القارئ فيه بقرب صدورها. وتضمن هذا الخبر تفصيلاً معلوماتياً صغيراً عنها. وفي 1 ديسمبر 1913 كتب موضوعاً موسعاً عنها حفل بمعلومات تفصيلية تتعلق بظروف نشأتها.

يقول محمد كرد علي: «أمامنا الآن أمتع مؤلف كتبه أهل الغرب عن المسلمين وبلادهم حتى هذا العصر، وهو (دائرة المعارف الإسلامية). ظهر -أولاً- نموذج منه باللغة الألمانية لأنها لغة العلم -على الأكثر- في أوروبة الوسطى وبلاد السكاندنافيا وهولاندة، فلم يسع فرنسا إلا أن توسلت بإخراج هذا العمل بلُغتها أيضاً، ونفحت الطابع مبلغاً من المال، وكذلك فعلت إنكلترا».

وأورد محمد كرد علي في موضوعه هذا نص جواب بعثه إليه رئيس تحرير الموسوعة، والأستاذ في كلية أوترخت بهولندا، مارتن هوتسما، رداً على استفسارات فنية حول طريقة العمل في (دائرة المعارف الإسلامية) وجهها محمد كرد علي إلى هذا المستشرق الهولندي المكلف بإنشاء هذه الموسوعة وبالإشراف عليها.

في جوابه، شرح طرق العمل فيها، والصعوبات التي تتسبب في سيرها سيراً بطيئاً. ومن المعلومات التي تهمنا في سياق تاريخ هذه الموسوعة معلومة ذكرها في جوابه، وهي أنهم أشركوا معهم في هذا العمل هدايت حسين. وهدايت حسين محقق وناشر كُتب مسلم من كلكتا الهندية.

أحمد أمين في مقال كان موضوعه (دائرة المعارف الإسلامية)، نُشر بمجلة (الرسالة) بتاريخ 15 أكتوبر (تشرين الأول) 1933، قال: «وكثيراً ما فكرت لجنة التأليف والترجمة والنشر في تعريبها حتى ينتفع بها قراء العربية في الممالك الشرقية، ولكن أكثر ما كان يعوقهم أمور...».

هذه المعوقات التي عدّدها رئيس لجنة التأليف والترجمة والنشر، أحمد أمين، معوقات أربعة، ثلاثة منها فنية، وواحد منها رقابي.

يقول أحمد أمين في هذا المعوّق الرقابي: «إن كثيراً من الموضوعات نظر فيها العلماء المستشرقون نظرة خاصة غير النظرة التي ينظرها المسلمون، وعالجوا نواحي قد يهم المسلمين غيرها، وبعضهم كان متعصباً، فكان يمزج عصبيته ببحثه -كما فعل الأب لامنس- في بعض ما كتب. وهذا يوجب أن يكتب الموضوع من جديد».

عبد الحميد يونس، وهو واحد من أربعة شبان جامعيين تصدوا لترجمة تلك الموسوعة الاستشراقية عن الإسلام، بدءاً من عام 1931، يقول في كتابه (الكاتب ليس إلا واحداً من قرائه ومقالات أخرى) الصادر عام 2007، في ذكرياته عن (لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية): «وكانت إحدى اللجان الثقافية في مصر قد فكرت في هذا المشروع قبل ذلك، ولكنها لم تتجاوز التفكير إلى التدبير، وراعها صدور العدد الأول من النسخة العربية في أكتوبر عام 1933، وكان الشبان الجامعيون الثلاثة قد ضموا إليهم رابعاً، ينتظرون من هذه اللجنة الإقبال والتشجيع، وبينهم أساتذة وأصدقاء، ولكنهم فوجئوا بحملة عنيفة تهاجمهم وتهاجم مشروعهم».

هل المقصود باللجنة، (لجنة التأليف والترجمة والنشر)؟ أم هو يقصد لجنة ثقافية أخرى؟

إن أحمد أمين مع صدور أول كراس لهؤلاء الشبان الجامعيين الأربعة، وهم: محمد ثابت الفندي، وأحمد الشنتناوي، وإبراهيم زكي خورشيد، وعبد الحميد يونس، في أول شهر أكتوبر عام 1933 في ترجمة (دائرة المعارف الإسلامية)، سارع بعد أيام من صدوره في مقاله الذي أشرت إليه آنفاً، لتهنئتهم والإشادة بعملهم، فبعد أن عدّد المعوقات التي أعاقت (لجنة التأليف والترجمة والنشر) عن ترجمة (دائرة المعارف الإسلامية) قال: «فما هو إلا أن نهض الشباب ولا راد لنهضته، فهزأ بكل العقبات، وثابر على العمل، وجدّ واقتنع بأن إخراج العمل مع ما يكون فيه من نقص أجدى على العالم العربي من الانتظار».

كما أن أحمد أمين في مشروع آخر لهم (أعلام الإسلام) متفرع عن مشروعهم الكبير (لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية) يرجع تاريخه إلى الأربعينات الميلادية، كان داعماً لهم في مجلته (الثقافة) في مشروعهم الفرعي هذا.

لا أدري تحديداً ما اسم اللجنة الثقافية التي أشار إليها في ذكرياته: هل يقصد أعضاء آخرين في (لجنة التأليف والترجمة والنشر) غير أحمد أمين، رئيسها والعضو فيها؟!

إن الذي جعل حازم صاغية يذهب إلى استنتاج خاطئ، هو الاقتباس الذي نقله من دراسة ميشال جحا (المستشرقون في الميزان) والذي هاجم حسين الهرّاوي فيه (دائرة المعارف الإسلامية).

هذا الاقتباس، كما أورده حازم صاغية في كتابه، قول الهرّاوي عن تلك الموسوعة: «ملؤها الطعن الجارح في الإسلام، والحشو بأقذر المثالب. يحررها جماعة من المستشرقين، ومنهم مبشرون وقسس، وخصوصاً الأب لامنس. وتصور قسيساً مبشراً يكتب عن حياة سيدنا محمد، أو عن القرآن والتاريخ الإسلامي، وأي روح تُملي عليه، وأي مبلغ من المال يأخذه أجراً».

هذا الاقتباس مأخوذ من الفصل الثامن من كتاب (المستشرقون والإسلام) وكان عنوانه في هذا الكتاب (حكاية فنسنك والمجمع اللغوي الملكي) وفي متنه إشارة إلى أنه المقال الأول الذي نشر في جريدة (الأهرام) في يوم 11 من شهر أكتوبر سنة 1933.

فنسنك في هذا التاريخ كان رئيس تحرير (دائرة المعارف الإسلامية) والمشرف عليها. وكان قد خلف مارتن هوتسما في هذه المهمة ابتداءً من سنة 1924، وهجومه في مقاليه المنشورين في جريدة (الأهرام) كان هجوماً جانبياً على تلك الموسوعة، كان الغرض منه إسقاط اسم فنسنك عند الملك فؤاد وعند الحكومة المصرية.

فهو هاجمها لأن فنسنك يشغل منصباً بارزاً فيها، ولأنه رجع إلى مادتين فيها عن النبي إبراهيم وعن الكعبة كتبهما فنسنك، فعرض بعض ما جاء فيهما مصحوباً بالرد والتفنيد والتشنيع عليه.

هجومه على فنسنك له سبب واحد، وهو اختياره بمرسوم ملكي عضواً في مجمع اللغة الملكي، أما هجومه على المستشرقين وعلى الاستشراق عامة، فله أسباب أخرى. وللحديث بقية.