مثل لاعب أكروبات عبثي، يخطو مغمض العينين على حبل واهٍ، تتمشى البشرية على حافة القيامة النووية. بل تبلد إحساس البشر بالخطر النووي، فهم يحبون دوماً «أن يفتحوا فمهم على خير». ويعالج سياسيون كثر هذه المخاطر بقدرية مدهشة، كقضاء لا مناص منه!

إبان الحرب الباردة الأولى، نجا العالم مرات عديدة من الجحيم النووي! وحصل أطرفها، عندما أعطت منظومة الإنذار السوفياتي المبكر بلاغاً كاذباً بهجوم 5 صواريخ أميركية، ما افترض فوراً إطلاق سلسلة أوامر الرد الانتقامي. لكن الكولونيل بيتروف تمكن بحصافته وجراءته من تجاهل الإنذار، من منطق أن أي هجوم أميركي لا بد أن يشمل مئات الصواريخ.

بحسب تجارب المحاكاة الافتراضية لمراكز الأبحاث، يصبح جلياً أن لا شيء أكثر ضلالاً وبلادة من الرهان الكسول على صدف مشابهة. إذ لم تعد ثمة «اتفاقات يالطا»، ولا قطبين متفقين على الشفافية في عقيدة وآليات الردع النووي، وإدارة الصراع الدولي. الحالم في هذه الحرب النووية الثانية العالم أكثر خطورة بكثير! تنعدم الثقة والشفافية، لتصبح الحرب واقعاً محتملاً.

بحسب هذه المحاكاة، يكفي رجل عدمي مجنون واحد، على رأس ترسانة نووية، ليقتل مئات الملايين في أول 72 دقيقة من الحرب النووية، ليأتي بعدها الشتاء النووي ويموت حتماً، 5 مليارات شخص على الأقل. يرصد نظام الإنذار الأميركي الأرض والفضاء، وفور رصد صواريخ معادية، يفترض إطلاق الضربة الانتقامية. وسيكون أمام الرئيس، ووزير الدفاع ورئيس الأركان 6 دقائق فحسب، للتحقق بلمحة على الرادار، ليكون الرئيس وحده مسؤولاً عن إشعال العالم. يصفّ ريغان هذه الدقائق الست «بأنها لاعقلانية».

بعدها، لن يكون ثمة معنى للدفاع عن نيويورك، أو موسكو، أو بكين، أو طهران. فثم «1770» جاهزة للإطلاق في أميركا و«1674» لدى الروس، و«12500» رأس من دول أخرى، لتنطلق خلال دقيقة أو دقيقتين، وهي تكفي لفعل ذلك.

بحسب المحاكاة الافتراضية ذاتها، ليس ثمة معنى «للحرب النووية التكتيكية»، فكل نووي هو استراتيجي بالتعريف. وفي أحسن السيناريوهات ستقتل حرب هكذا «أكثر من ملياري شخص».

لكن محاكاة الحرب النووية، تشخص تصاعد عوامل جديدة تجعل مخاطر التدحرج نحو حرب نووية احتمالا حرجاً، وربما مرجحاً:

- أولها تفاقم الصراعات العقائدية، وتصاعد الآيديولوجيات القيامية أو العدمية، والإقصائية القومية، لدى قيادات نافذة تقع في قمة القرار في العديد من الدول، لتحول الصراعات المزمنة لقنابل نووية موقوتة. وتندرج في هذه القائمة صراعات الشرق الأوسط والصراعات بين الدول الآسيوية. وتشير الوثائق إلى أنه في ذروة العداء للشيوعية عام 1949، اعتقد جنرالات القيادة والتحكم النووي الأميركيون أنه يمكن الفوز في حرب نووية، رغم موت مئات الملايين. لـ«تصبح العاطفة الشديدة واليقين القاطع بالآيديولوجيات السياسية وصفة للكارثة»، المؤرخ هوفستادتر.

- غياب قواعد ضبط قواعد الصراعات الدولية بين الأقطاب الدوليين، فيما يماثل «يالطا»، إضافة إلى تعدد الأقطاب النووية. وعدم رغبتها بالخضوع للضوابط (ترفض الصين حتى الآن الدخول في مفاوضات نووية استراتيجية).

- تجاهل الدول الكبرى للقانون الدولي ومؤسساته، وتآكل المعايير والاتفاقات المقيدة لتطوير الأسلحة النووية، وانهيار اتفاقات الحد من التسلح.

- انتشار الأسلحة النووية لدى دول تغيب فيها آليات واضحة لصنع القرار، بل تروج بعض قياداتها لفكرة الحرب النووية.

- أضافت المسارات الجديدة والمتراكبة للتطوير العلمي والتقني الكثير من عدم اليقين والشك بالنسبة لصانع القرار الاستراتيجي وقدرته على درء الحرب النووية. يضاف إلى ذلك، ما يضيفه التصغير الشديد للأسلحة من إتاحة المجال لمجموعات صغيرة، لنقلها وتداولها. «إن الوتيرة المتسارعة للتغير التكنولوجي في أنظمة الأسلحة تفوق قدرتنا على فهم وإدارة الآثار المترتبة على الاستقرار النووي»، كيسنجر. ويعطي التطور الهائل لسرعة ودقة وشمولية وتكامل الأسلحة وقدراتها الفائقة على التخفي والإرباك العددي مساحة محدودة جداً للقرار البشري العاقل. إذ تزداد بشدة نسبة المجاهيل، وتقصر بشدة اللحظات المتاحة لاتخاذ القرار.

- يسهل دخولُ تقنيات جديدة وعديدة للسيطرة على المعركة إمكانيةَ التدحرج نحو حرب نووية بشكل مقصود أو عفوي. أولها السرعات الفائقة، وقوة التخفي الكبيرة، والحرب السيبرانية وأنظمة القيادة الأوتوماتيكية. يسبب هذا الوضع نقاط ضعف غاية في الخطورة في قدرات القادة البشر على تقصي الأهداف أو استكشاف الإنذارات المزيفة أو المبالغ فيها.

ليست هذه إلا إضاءة خاطفة على أبحاث واسعة، رصينة ومعتبرة.

فيما تدخل البشرية أكثر لحظاتها الواعدة بالرفاه والتقدم، فإنها لا تزال تحمل في جوفها بذور الكارثة النووية بما تكتنفه من بقايا تاريخها الدموي من عصبيات ثقافية وعقائدية. فهل أمامنا سوى الخيار العاقل الوحيد، وهو السلام؟