- كان مطعم «النيروز» على الدوّار الثالث في جبل عمّان في العاصمة الأردنية في الثمانينات، المكان المفضّل لكتّاب وشعراء وصحفيي العاصمة،.. وكان مكان الظهيرة وما بعدها حتى الليل،.. وكان أيضاً مكاناً للأصوات:.. صوت الضحك على طاولة هنا، وصوت إلقاء الشعر على طاولة هناك،.. صوت الهمس، والصداقات، والحب، وقبل ازدحامه بتلك «العشيرة» من الكتّاب، كان يمكن للشاعر أن يكتب قصيدة، ولو قصيرة.

- تلاشت الأسماء، لكن، لم تتلاش الأمكنة... بقي مكان مقهى «السنترال» قائماً في قلب عمّان، لكن لم يعد هناك أي وجود للمقهى، تحوّل المكان برمّته إلى مطاعم سياحية صغيرة، مقابل أسواق التحف والخرز واللوحات التذكارية، فيما كان يجلس حول طاولات السنترال شعراء الحداثة، والحالمون الرومانسيون بوحدة عربية كبرى، والثورجية الذين تحوّل الكثير منهم إلى منظّرين محبطين..

- أحببت مقهى «الهافانا» في دمشق قبل أن أدخله أو أتعرّف إلى طاقته الروحية في مكانه ذاك بالقرب من شارع الصالحية،.. ولن أنسى «اللّاتيرنا» الذي لم يكن يبعد عن «الهافانا» سوى خطوات قليلة. ولكل مكان روّاده كما لكل شجرة طيورها، لكنني كنت طائر كل الأشجار، أجلس قليلاً إلى طاولة دعد حدّاد، في «اللّاتيرنا»،.. وقليلاً إلى طاولة شاعر عابر «في قصيدة عابرة» وقليلاً إلى طاولة امرأة من ياسمين في مقهى شعبي في «باب توما»... كل شيء لم يعد في مكانه... كل مكان لم يعد في زمانه..

- أجلس في مقهى «ريش» في القاهرة، وأعود بساعة الزمن إلى الوراء: بعض شعراء الستينات، إلى جوار شعراء السبعينات، روائيو الثمانينات وقصّاصو القرية إلى جوار شعراء القصيدة الشعبية،.. وأبطال نجيب محفوظ – كما لو أنهم من عائلته يأتون أيضاً إلى ريش وجلسة الحرافيش.

لا أذكر اسم ذلك المطعم الصغير الذي تناولت فيه العيش والسمك في شارع أبي نواس، لكنني أذكر كرم ذلك الرجل صاحب المطعم حين عرف أنني أزور بغداد أوّل مرّة، وأذكر دكان ذلك المكتبجي الطيّب في شارع المتنبي، واستكانة الشاي، والكتب التي على – امتداد النهار..- لا شيء على حاله..- لا مكان في مكانه.

***

يا لهذي الأماكن.. كم تتذكَّرْ

يا لهذي الأماكن.. كم تتنكَّرْ