الكلمة ترتبط بنشأة الإنسانية، فهي القوة الأعظم؛ لأنها مصدر كل القوى التي وصلت إليها البشرية. الكلمة الخطر الكبير الذي يحاول الإنسان أن يسيطر عليه؛ لأنها المارد الجبار، والقوة المدمرة وفي الوقت ذاته قوة البناء والعلم. كل ذلك وأكثر يكمن في الكلمة التي تتشكّل في أشكال عدة وصور شتى، ولكنها في النهاية هي المادة أو المصدر للمصدر الأول لهذه القوة العظمى دون مبالغة ولا تحيز أو تضخيم.

لقد نشأت الإنسانية عندما تعرّفت البشرية على الكلمة. قال تعالى: «وعلّم آدم الأسماء كلها»، فظهور الإنسانية ارتبط بالكلمة، وقدرة الإنسان على إدراك الأسماء والمسميات، وجاء في التنزيل قوله تعالى «فتلقىٰ آدم من ربه كلمات». الكلمة هي المادة أو الوسط الناقل للدين والعلوم والمشاعر وكل ما يميّز الإنسانية. ومما يبين أهمية الكلمة أنه ورد في القرآن لفظ كلمة في خمسة وسبعين موضعاً. وهو ما يظهر ويكشف السر الكبير في الكلمة وما تحتويه من طاقات؛ لأنها قوة ومصدر الأشياء مثل كلمة (كن فيكون) قال تعالى: «وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون». تاريخ الإنسانية نشأ عندما تعلم الإنسان الكلمة. والكلمة محل اهتمام العديد من العلوم مثل علم المعاجم وعلم البلاغة والنحو، وفقه اللغة، والعلم الذي يهتم بدراسة اللغة بأسلوب علمي، «ويعرف أيضاً، بأنه: تصنيف اللغة كموضوع من المواضيع العلمية، فيدرس بناء اللغة، وكيفية تركيب مفرداتها، وتكوين الكلمات فيها، ومعرفة الأصوات الخاصة بكل كلمة، وطبيعة نطقها».

أدرك الإنسان أهمية الكلمة وتأثيرها عبر التاريخ فاستخدمها وسخّرها لتحقيق أهدافه وأغراضه، واستعملها ووظفها في شتى صنوف ومناحي الحياة. لهذا جاء في المثل «قوة الإنسان في عقله ولسانه». الكلمة على مدى التاريخ الإنساني فتحت بلاداً، وهزمت جيوشاً، وأقامت دولاً، وقوة الكلمة تتفوق على قوة الكهرباء أو الطاقة الذرية أو النووية؛ لأنها تمس الروح والعقل والقلب مباشرة، فتحفّز الجسد لفعل أو رد فعل، أما بقية القوى الأخرى فإنها تمس الجسد فقط.

يقول المؤلف والروائي البرازيلي باولوا كويلو: «من بين جميع أسلحة الدمار التي يستطيع الإنسان ابتكارها، تعتبر «الكلمة» هي الأكثر إثارة للرعب والأقوى، فالخناجر والرماح تترك أثراً من الدم، والسهام يمكن رؤيتها عن بُعد، والسموم تكشف عن النهاية ويمكن تجنبها، أما «الكلمة» فتستطيع التدمير دون ترك أية أدلة» !

لقد وعى الإنسان خطورة الكلمة وتأثيرها، فنقشها في المعابد والأبنية والصروح وعلى الصخور والجبال، وصاغها شعراً، ولحنها أنغاماً، ورسمها صوراً، وخلّد حروبه وإنجازاته ودياناته ومعتقداته. ويتبيّن للباحث في علم الاجتماع أن تطور المجتمعات الإنسانية ارتبط بتطور الكلمة؛ لأن اللغة تفرض بشكل أو بآخر على الإنسان طريقة التفكير. وقد عني واهتم الغرب بالكلمة واستخدامها في السيطرة والتنمية ونشر أفكاره ومفاهيمه وثقافته. ورغم تحيّز الإعلام الغربي الذي توظفه الرأسمالية المتوحشة لمصالحها وأغراضها وأهدافها إلا أنه نجح نجاحاً باهراً في تسويق منتجاته وأفكاره وثقافته وسلوكياته على الداخل والخارج. وأصبحت السلطة الرابعة سلطة مهيبة ومخيفة يحسب لها ألف حساب. استطاعت هذه السلطة أن تهيمن على المشهد العالمي والمحلي، وتشيطن المخالف، وتمجد المناصر لها. وتضلل وتتلاعب بالمشاعر والأفكار وتمارس الضغط والتخويف وخلق الأعداء الوهميين وممارسة الحرب الهجينة وخلق القضايا الوهمية للسيطرة على الموارد والهيمنة على مقدّرات الآخر.

الحروب المذهبية والطائفية والعنصرية كلها نتاج لتوظيف الكلمة في غير موضعها. وكما قيل «الكلمة نور وبعض الكلمات قبور». لهذا يجب على مركز البحوث والجامعات والإعلام والجهات المعنية بالثقافة الاهتمام بالكلمة ومضامينها وتوظيفها لصالح مجتمعاتنا وحماية الأمن والاستقرار من الفرقة والشقاق والخلاف.

إن التطوير يحتاج إلى إبداع وأجواء من الحرية والتشجيع والرعاية من قبل الجهات الرسمية؛ لأن الأمل في نهضة ثقافية وفكرية حديثة بعد أن غاصت الليبرالية الغربية في مستنقع العفن الأخلاقي الاستبدادي والعنصري والاستعماري والمعايير المزدوجة، حتى أصبح الشاذ مثلياً، ومجتمع الشواذ مجتمع الميم، وجعل النادر قاعدة، وسيل المفاهيم والكلمات والمصطلحات التي تلوي عنق الحقيقة في السياسة والاقتصاد والبيئة والتعليم والتربية وكافة مجالات الفنون والعلوم والآداب.