حقاً، بعض الكتب في الشباب يتوجب أن تُقرأ مرة ثانية في المشيب، وما بين الزمنين خبرة، وتجربة، ومعارف وحياة هي معاً تشكل طبيعة القراءة الثانية،.. قراءة النضج والمراجعة والتقييم.

د. إحسان عباس علم عربي من أعلام النقد الأدبي والمرجعية الأكاديمية كان في مرحلته الثقافية التي تزامنت بالضبط مع تحولات الشعر العربي نحو انقلاب الحداثة.. نعم، هكذا يطلق على تلك التحولات من جانب بعض أقلام النقد الأدبي نفسه، غير أن تلك التحولات لم تكن انقلاباً بالنسبة لشيخ النقاد العرب، وإنما كانت نتيجة موضوعية لانتقال الشعر من شكل عمودي إلى شكل تفعيلي، وبما أن التفعيلة بقيت كما هي صيغة وزنية موسيقية في الشعر العربي الجديد، فلا انقلاب، إذاً، لا على هذه الصيغة العروضية، ولا على موسيقاها التي هي الأساس في العمودي، والتفعيلي.

واكب د. عباس تجارب شعرية عربية، عراقية بشكل خاص منذ الخمسينات والستينات، وقرأها بمعرفة نقدية وافية،.. وافية في زمنه، لكن اليوم، تحتاج رؤية د. عباس إلى الكثير من المراجعة النقدية، أي النقد حين يشتغل على النقد، ولكن، هذه عملية كبيرة، وتحتاج إلى ناقد كبير، ناقد جديد، في زمن المشيب هذا، يتماثل في شخصيته (وكاريزماه) الثقافية مع شيخ النقّاد.

نقد النقد هذا، غير موجود لا نظرياً ولا تطبيقياً، لأسباب عدة، منها مثلاً، أن بعض النقاد هم تلاميذ د.عباس، وقد يشعر الناقد (التلميذ) بالحرج الثقيل إذا هو (انقلب) على أستاذه، وبذلك تبقى وجهة النظر التي يحملها الناقد الأستاذ في ما يشبه (المقدّس الثقافي) الذي لا يجب الاقتراب منه أو (الانقلاب) عليه.

د. حسين مروّة أصدر في العام 1965 كتابه المعروف (دراسات نقدية في ضوء المنهج الواقعي)، ولك أن تلاحظ منذ البداية التحديد المنهجي الصارم (المنهج الواقعي)، الذي انتهى اليوم مع انتهاء الأيديولوجية التي كانت تغذي ذلك المنهج، وحين تقرأ في المشيب (الآن) كتاب د. مروّة، تجد نفسك في زوبعة من اللغة الحمراء، إن جازت العبارة، لغة الفكر اليساري العربي الذي كان يبشر بقيم وثقافة ومستقبل وديمقراطية وتحرر، وغير ذلك من معجم (أحمر) بات اليوم لا يصلح لشيء، لا للأدب ولا للفكر، ولا للحياة.. الأمر الذي يكتشفه بالطبع الناقد الأدبي، والناقد الثقافي الجديدان في زمننا هذا، إن وُجِدَا،.. لماذا؟؟ (إن وُجِدا)؛ لأنه، مرة ثانية، من الحرج الثقيل «إياه» أن ينقلب التلميذ على أستاذه..

الكثير من المؤلفات والبحوث والدراسات والنقديات الأدبية العائدة إلى الستينات والسبعينات من القرن العشرين أصبحت منتهية الصلاحية والفاعلية، يُقال هنا، الكثير وليس الكل، وقد يحمل هذا الحكم نوعاً من التعسف والغبن، لكن الحقيقة الثقافية الموضوعية ليست عاطفية، ويجب أن تنطلق دائماً من قلم شجاع..