رحلة الحج إلى بيت الله الحرام، من أعظم الأسفار وأجل الرحلات، رحلة إيمانية مباركة نحو أعظم بقاع الأرض، لأداء ركن من أركان الإسلام، وهو الحج، وهناك يطوف الحجاج ويسعون ويصلون ويدعون ويبتهلون، داعين الله تعالى أن يرفع درجاتهم، ويغفر زلاتهم، ويحقق أمنياتهم، ويرزقهم السعادة في الدارين، ليعودوا أطهاراً كما ولدتهم أمهاتهم، ويفتحوا صفحة جديدة من صفحات حياتهم، بعد أن اغتسلوا هنالك بماء التوبة والإنابة والخشوع والتضرع لله تعالى.

إنها ليست رحلة فرد واحد فحسب، بل رحلة آلاف مؤلفة من المسلمين من شتى بقاع الأرض، على اختلاف ألوانهم وأعراقهم وبلدانهم ولغاتهم، يتوافدون جميعاً لزيارة بيت الله الحرام وأداء المناسك، يلبسون لباساً واحداً، ويؤدون عبادة واحدة، الكل سواء، لا يتميز أحد على أحد إلا بالتقوى، لا فرق بين رئيس ومرؤوس، أو غني وفقير، أو صغير وكبير، مهما اختلفت قبل ذلك مناصبهم أو رتبهم أو أحوالهم المالية أو الاجتماعية فهم هاهنا سواسية، يسيرون على قلب رجل واحد منضبطين ملتزمين متبعين لما أمر خالقهم، ملبين بنداء واحد: لبيك اللهم لبيك، أي نجيب دعوتك، ونقيم على طاعتك، محبة لك وتقرباً إليك، تاركين كل ما يشغلنا عنك، وهذا أعظم دروس الحج، وهو كمال التوحيد والإخلاص والعبادة لله تعالى، وحبس النفس على طاعته وترك معصيته، ومجاهدة النفس في مرضاته، وكبح جماح الهوى والارتقاء بالنفس في معارج الإيمان والتقوى، كما قال تعالى: {الحج أشهرمعلومات فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج وما تفعلوا من خير يعلمه الله وتزودوا فإن خير الزاد التقوى واتقونِ يا أولي الألباب}.

وفي مثل هذا الاجتماع العظيم تتجلى في الحج معاني الأخوة والتلاحم والتعاطف بين المسلمين، تتجلى روح الأخوة في أسمى معانيها، حيث يلتقي المسلمون من مختلف أنحاء العالم، بثقافاتهم ولغاتهم وعاداتهم المختلفة، في مشهد مهيب يعبر عن وحدتهم وتلاحمهم، يتشاركون في أداء مناسك الحج، ويتعاونون فيما بينهم على إتمامها، مما يعزز روح التعاون والتسامح والتعارف بينهم، كما قال سبحانه: {وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا}، فهم في اجتماعهم هذا كالجسد الواحد، أمة واحدة متماسكة، كما قال تعالى: {إنَّ هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون}، وقال عليه الصلاة والسلام: «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً»، وقال: «مثل المؤمنين ‌في ‌توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد، إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى».

وفي مثل هذه المواقف تتجلى معاني الرحمة والتعاطف، والرفق والتواضع، والتعاون والتكاتف، والصفح والتسامح، والصبر والإيثار، والتواصي بالخير والتنافس عليه، فيحب المسلم لأخيه ما يحبه لنفسه، وما أجمل الإنسان وهو يتحلى بهذه القيم الأخلاقية الحضارية الراقية في معاملة الآخرين، يقابلهم بوجه بشوش، وكلمة طيبة، وتواضع منقطع النظير، وحسن ظن بهم، وسعة بال وتحمل، يعفو عن هفوتهم، ويتلقى نصيحتهم وتذكيرهم بصدر واسع، ويحب لهم الخير ويدلهم إليه ويعينهم عليه.

إن اكتساب هذه الفضائل والشمائل واستدامتها في مختلف محطات الحياة ومواقفها مع الجميع من أعظم الدروس الشرعية والإنسانية التي تستفاد من مثل هذا المجمع العظيم.

ومن الدروس المستفادة من الحج كذلك استدامة التغيير والتهذيب والارتقاء للنفس، وتعاهدها ومحاسبتها طيلة مسيرة الحياة، فيتفكر الإنسان في أيامه كيف تمضي، وفي أقواله وأفعاله كيف تصدر، وفي سلوكه وأخلاقه كيف تظهر، في معاملته مع الله تعالى ومدى أدائه لما به أمر واجتنابه لما منه حذر، وفي معاملته مع الناس كيف هي، مع أهل بيته وأقاربه وجيرانه وزملائه ومجتمعه وقيادته ودولته، مؤمناً بأن التغيير للأفضل ممكن، وأن باب الارتقاء مفتوح لا يغلق، وأن السباق لاكتساب معالي الأمور لا نهاية له، وأن العادة السيئة مهما كانت مستحكمة فيه فهو قادر على أن يتخلص منها بتوفيق الله، وأن العادة الصالحة مهما كانت صعبة عليه فهو قادر على أن يتحلى بها ويعود نفسه عليها، كما قال الشاعر: ‌والنفس ‌كالطفل إن تهمله شب على... حب الرضاع وإن تفطمه ينفطمِ.

وهكذا، من كان على حال حرص على أن يكون على حال أفضل، ليكون إلى الله أقرب، وبمرضاته أسعد.

إن الدروس المستفادة من الحج بحر زاخر لا ساحل له، سائلين الله تعالى للحجاج أن يتقبل منهم ويحقق رجاءهم ويرجعهم إلى ديارهم غانمين.