كيف يمكن وصف هذا الحديث؟ هو عبارة عن حوار من طرف واحد مع موسيقيّ عربيّ متخيَّل. بمعنى أن القلم استكفى بعدم الإجابة إذا سأل، واستغنى عنها. توكلنا.

عزيزي الموسيقي: هل تدري أنك بعدم خوض غمار الموسيقى المستقلة عن الكلام، الموسيقى الجادّة العارفة، من المعرفة والعرفان، تكبت وتقمع وتئد أيّ إمكانية لنموّ فكر موسيقي لديك؟ أنت بهذا تغيّر طريقة أداء دماغك عندما تتعامل مع الموسيقى، للتعبير بها. السبب واضح لدى العقل الناقد والإحساس بالجمال، لأن التعبير بالموسيقى غير التعبير بالكلمات، وإن كانت اللغة مخارج أصوات. مخارج الأصوات تتحول إلى حروف، فتصنع منها كلمة بحر، وتعود فتصنع من حروف البحر: بسمة حريّة رائعة. الأمر مختلف في الموسيقى عن التآلفات المعجميّة. لكن يجب التذكير دائماً بمقولة موتزارت، حين سئل: «ما الذي تفعله عندما تؤلف الموسيقى»؟ قال: «لا شيء، غير أن أجعل النوتات المتحابّة متجاورة»، أروع الكتابة إذاً، أن نجعل الكلمات المتحابّة متجاورة.

للقلم أحياناً، فانتازيّات متلثّمة بالفكر. «ذات مرار» ظلّ يعتقد على الدوام، أن التراث الشعري فيه شيء من هذا القبيل. هو يؤمن، على مسؤوليته، بأن الشعر المحض قليل في تاريخ الشعر العربي. يرى أن أغلبية ما يسمّيه الناس شعراً إنما هو إنشاء، آراء، نصائح، حِكَم متفاوتة في الرجحان. هو يستنتج من ذلك أن الحرص على تجميع الأفكار، حال دون الافتتان بالمعاني المجرّدة، وعشق روح الأشياء لا تجسّداتها المادية. لهذا نرى العقل العربي يفتقر إلى التعلق بالمجرّدات، لهذا نرى مجافاة الرياضيات والصدود إزاء الموسيقى الخالصة، وقلّة الأدب الصوفي مقابل الإغراق في التصوف النظري والأشكال الأقرب إلى الشعوذات، كالزار وما فوقه وما دونه. ليس لنا قمم عالمية في الأدب الصوفي.

أساطين الموسيقى العربية استسلموا لهذا الانسحاب. لم يكافحوا، حسبوا أن الموسيقى عاجزة عن التعبير إذا لم يقف بلبل كشوقي، أو حسّون كرامي، أو عندليب كبيرم، على الأوتار مناغياً ومدندناً. عباقرة موسيقانا للأسف سخّروا نبوغهم للتعبير عن معاني الكلمات، أي عن شيء غير الموسيقى؟ السنباطي يعبر عمّا يقوله شوقي أو رامي لا عمّا تقوله الموسيقى. السؤال الفلسفي: من المعبِّر ومن المعبَّر عنه؟ الموسيقى أجدر بالتعبير عن نفسها؟ يجب تأهيل العقل العربي للتعامل، للاندماج، للانصهار في المجردات.

لزوم ما يلزم: النتيجة الإيجازية: عدم الاستعداد لاستيعاب المجردات، يحول دون استيعاب الموسيقى المستقلة، الفلسفة، الرياضيات، وبناء الدماغ الباحث علميّاً.