أزراج عمر

هلَّل بعض وسائل الإعلام الجزائرية الخميس الماضي للتصنيف الذي خصّت به مؤسسة "التايمز" البريطانية، المتخصّصة في تصنيف الجامعات على المستوى العالمي، 54 مؤسسة جامعية جزائرية من أصل 2152 مؤسسة جامعية تابعة لـ 125 دولة، حيث اعتبرت وزارة التعليم العالي الجزائرية هذا التصنيف تتويجاً لمنظومة التعليم العالي الجزائري، ومبرّرها في ذلك هو أن المؤسسة البريطانية نفسها كانت قد صنّفت منذ سنة ماضية 12 جامعة جزائرية فقط، الأمر الذي يعني لدى المسؤولين عن شأن التعليم العالي أن البلاد حقّقت قفزة نوعية من حيث الكمّ، بخاصة أن هذا التصنيف الجديد وضع الجزائر في المرتبة الأولى مغاربياً وعربياً وأفريقياً، من حيث عدد الجامعات الجزائرية التي شملها هذا التصنيف.

في هذا الخصوص بالذات، يرى خبراء جزائريون متخصّصون في شؤون التعليم العالي الجزائري، أن معيار الكمّ الذي تعمل به مؤسسة "التايمز" البريطانية لا صدقية علمية له، لأن حقائق واقع منظومة التعليم العالي الجزائري، توضح لمن يعاينها من كثب، أن مستوى التعليم العالي الجزائري لم يشهد تطوراً راديكالياً، بل فهو تقليدي والدليل على ذلك أن التنمية الوطنية لم تُنجز تحوّلاً جذرياً لصالح العصرنة. كما أن الأزمات التي تتخبّط فيها الحكومات المتعاقبة لم تُحلّ بشكل يضمن للبلاد الأمن المادي والثقافي والاستقرار الاجتماعي.

وفي هذا الخصوص، يتساءل هؤلاء الخبراء: "أين هي مساهمة الجامعات الجزائرية في تحقيق أهداف التنمية المستدامة في المجتمع الجزائري"، التي يزعم تصنيف "التايمز" البريطانية أنها تحققت في أرض الواقع؟ "وأين هذا التقدّم الذي تزعم هذه المؤسسة أيضاً أنه أُنجز في ميادين البحث والتواصل والإشراف والتدريس في الجامعات الجزائرية؟".

بداية، ينبغي التذكير بأن عدد الطلبة الجزائريين المسجّلين رسمياً في الموسم الدراسي لعام 2023-2024 قد قُدّر بمليون و 700 ألف طالب وطالبة. وتؤكّد تقارير رسمية صادرة عن وزارة التعليم العالي الجزائرية، أن هؤلاء يزاولون دراستهم "في 114 مؤسسة للتعليم العالي، إضافة إلى 53 جامعة، و9 مراكز جامعية، و12 مدرسة عُليا للأساتذة، و15 كلية للطب، و14 ملحقة تابعة للطب".

تعني هذه الأرقام ظاهرياً أن الجزائر توفّر التعليم الجامعي مجاناً، وتقدّم التسهيلات للطلاب، سواءً تعلّق الأمر بالإقامات الجامعية والمطاعم الملحقة، أو بالنقل المخصّص لهم بأثمان رمزية في الغالب. هذا من الناحية المادية. لكن القضية الخطيرة التي يتناساها المسؤولون الجزائريون فتتعلق بشقّين مترابطين: أولهما يتمثل في انعدام مشروع الجامعة الحديثة المتفتحة على حملة العلم والفكر، وعلى مستجدات العلم والصناعة والتقنية والفنون والفكر الأكثر تطوراً. أما الشق الثاني فيتلخّص في الأوضاع المادية الصعبة التي يعاني منها الأساتذة الجزائريون الذين يقومون بتنفيذ بيداغوجيات التكوين في شتَى التخصّصات، حيث أن معاشات هؤلاء ضعيفة، وبخاصة رواتب الأساتذة الجدد التي لا تكفي غالباً حتى لتغطية الإيجار وملحقاته والمواصلات.

معروفٌ أن ضعف هذه الرواتب يؤثر سلبياً وعميقاً في نفسيات الأساتذة، وفي تكوينهم المتواصل، ويلاحظ أن هذا الضعف أدّى ولا يزال يؤدي إلى نتائج وخيمة، منها تخلّي الكثير من إطارات التعليم العالي عن عملهم كأساتذة، وأصبحوا يلهثون وراء وظائف مختلفة تضمن لهم الدخل الأفضل، منها النشاطات التجارية والفلاحية التي لا علاقة لها بمنظومة التعليم العالي بشكل نهائي.

على أساس ما تقدّم، فإن تصنيفات مؤسسة "التايمز" البريطانية والمؤسسات الدولية الأخرى، التي تركّز على تضخّم عدد الجامعات والمعاهد العليا، أو على الكمّ الهائل لأعداد الطلاب المستفيدين من التكوين والتأطير البيداغوجي في هذه المؤسسات التعليمية، لا يُعوّل عليها، لأن المعيار الأساسي والحقيقي هو المستوى العلمي والثقافي والفكري والمهني الذي ينبغي إنجازه نظرياً، ثم تطبيقه عملياً في مسيرة التنمية بكل أشكالها.

وفي الواقع، لم تحقّق منظومة التعليم العالي الجزائري التطور المنشود حتى يومنا هذا في التخصّصات العلمية والتكنولوجية والتقنية، وكذلك على مستوى العلوم الإنسانية والآداب واللغة العربية واللغات الأجنبية الأساسية، التي تُعتبر مفاتيح المعارف الأكثر حداثة وارتباطاً بمختلف أنماط التنمية، بل إن الغالب على الأبحاث والأطروحات هو الارتجال والإشراف السيئ، وعادات منح الشهادات العليا لباحثين تغلب على نتائج بحوثهم المعلومات المستهلكة التي لا تضيف جديداً إلى البحث العلمي.

وفي الواقع، تدريس الطب في الجزائر، مثلاً، قد قطع بعض الأشواط المعتبرة من ناحية التكوين، لكن النتائج التي ما فتئ يسفر عليها هذا التكوين لا تستفيد منها الجزائر، حيث نجد آلاف الخريجين المتفوقين غادروا الجزائر إلى فرنسا وكندا وغيرهما من البلدان التي تقدّم الرواتب المغرية. وبذلك، صارت الجزائر تخسر باستمرار في هذا المجال الحيوي الذي يحتاج إليه المجتمع الجزائري.

أما المعاهد العليا التي يفترض أنها تدرّس التخصصات التي تحتاجها برامج التنمية الوطنية، مثل الزراعة والمعمار والصناعات الخفيفة والثقيلة والإدارة والبناء وغيرها من التخصّصات، فهي لا تتوفر على الكفاءات التي تملك مفاتيح التكوين العصري الجاد من جهة، ومن جهة أخرى، فإن الذي يحدث فيها هو مجرد تعليم تقليدي جراء قلة وسائل التكنولوجيا الحديثة وندرة المشرفين ذوي التكوين العصري المتطور.

لنأخذ مؤسسة أساسية ذات طابع سياسي وإداري كأنموذج، وهي المدرسة الوطنية العليا للإدارة، فنجد أن هذه المؤسسة تُعتبر نظرياً المعقل الذي تتخرج فيه الإطارات الوطنية السامية التي تُكلّف بالإشراف على تسيير جميع المؤسسات الوطنية الكبرى والمتوسطة والصغرى التابعة للحكومة التنفيذية على المستوى الدبلوماسي الخارجي، والمركزي الوطني، وعبر الولايات "المحافظات" والدوائر والبلديات، وعلى مستوى الجزائر العميقة في المدن والأرياف، لكن النتيجة المحصل عليها منذ الاستقلال سلبية، حيث أن الجزائر لم تحقق على أيدي هؤلاء طور التنمية العصرية المستدامة، وتحديث البنيات التحتية والفوقية معاً، بما يفضي إلى تأسيس مجتمع حداثي مادياً وثقافياً وبالعكس، فإن الإطارات التي تخرجت في هذه المدرسة العليا لعبت دوراً مفصلياً في ترسيخ البيروقراطية، وأساليب خنق المبادرات، وآليات شل الإرادات مع الأسف.