قبل قرن ونصف القرن، وفي أول بث سينمائي للجمهور، كان العرض يشمل قطاراً يسير باتجاه مقدمة الشاشة، مما أثار الجمهور وأفزعه، حيث تصوروه متجهاً نحوهم، بالطبع لم يكن القطار يُشكّل خطراً على الجمهور، لكن حالة الذعر التي اجتاحتهم حينها كانت بفعل خيالهم الخاص.
اليوم تطوّرت الصورة، وأصبحت تحاكي الواقع بشكل رهيب، وهو بالتأكيد ما ينعكس على خيال البشر، خاصة في مرحلة الطفولة، حيث يقول الخبراء إن الطفل وحتى سن الخامسة لا يُميّز بين عالم الواقع وعالم الخيال، فهما مندمجان عنده، لأن الوعي الأخلاقي لم يَتَشكّل لديه بعد، ومن هنا يأتي خطر ألعاب الفيديو، حيث أصبح إتقان الصورة يجعلها أقرب الى الحقيقة، بل إن بعض الألعاب تفوّقت في وضوح الصورة على الأفلام السينمائية.
الإنسان عادة ما يتفاعل مع فيلم أو دعاية يشاهدها عبر جهاز التلفزيون، يتفاعل مع الشخصيات في الفيلم أو مع الأحداث بشكل عام، مثل هذا التفاعل يكون مضاعفًا في حال السينما لأن الصورة تكون هنا أكثر وضوحًا ودقة، وبالتالي تؤثّر في المخ والتلقّي بشكل عام وبدرجة أكبر.
لم يعد الأطفال وحدهم المتأثرين بالصورة، فالإعلام اليوم، سينما او دعاية أو أخبار، عمل على توحيد الرؤية في بوتقة ثقافية شبه موحّدَة، وبشكل أدى الى إزالة كل الاختلافات والخصوصيات في عالم القرية الواحدة. لكنها تبقى بوتقة محكومة وغير محايدة، ولها مرجعيتها الفكرية والثقافية والسياسية الخاصة، لقد أصبحت للصورة هنا سُلطة، وأصبحت قادرة على شحن العواطف وتجييش المشاعر وبالاتجاه المطلوب.
العلاقة بين الواقع والخيال والتي كثيراً ما ترسّخها الصورة، هي علاقة أصبحت اليوم، في ظل التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، معقدة ومتشابكة بين واقع محسوس وملموس، وبين خيال تحفّزه مؤثرات خارجية أصبحت تضاهي في دقتها الواقع المحسوس.
لا مبالغة إطلاقاً في القول هنا إن البشر يعيشون اليوم مرحلة حرجة وخطرة وحساسة، تتمثل في ذكاء اصطناعي أفرزته الثورة التكنولوجية، مثل هذا الذكاء تجاوز مرحلة إتقان بث الصورة، وكما كان الحال في بدايات التلفزيون والسينما والألعاب الالكترونية، الى مرحلة علم هندسة الآلات الذكية وإنشاء برامج حاسوبية دقيقة قادرة على التفكير والتخيّل بنفس الطريقة التي يعمل بها الدماغ البشري. بمعنى آخر سيكون بإمكان جيل السوبرمان، الذين استعانوا بمفارش الطاولة والسرير، أن يتحولوا فعليًا الى سوبرمان حقيقي ومحسوس.
لقد استطاعت الصورة تلفزيونيًا وسينمائيًا ان تغتال الواقع في الماضي، والآن يعيش البشر مرحلة حلول الصورة مكان الواقع مع كل ما يعنيه ذلك وما يجلبه من مضاعفة الخلط بين الواقع والخيال وبصورة مخيفة.
لم يعد الأطفال وحدهم إذًا الذين يخلطون بين الحقيقة والخيال، بل أصبح البشر كلهم لا يستطيعون التمييز بعد أن اختلطت الحقيقة بالخيال، وهو ما يرى فيه الكثير من علماء النفس خطراً على الصحة النفسية، حيث تتوقف هنا بعض العمليات الذهنية وبالتحديد ما يُطلَق عليه الوظيفة العاكسة والتي تساعد الإنسان على التمييز بين الحقيقة والخيال.
سعاد فهد المعجل
التعليقات