في الاجتماع الأخير لوزراء مالية دول مجموعة السبع في إيطاليا، كانت مساعدة أوكرانيا مالياً موضوعاً رئيسياً. وركزت تقارير تغطية الاجتماع على قبول دول المجموعة المقترح الأمريكي بتقديم قرض كبير لكييف بضمان أرباح الأصول الروسية المجمدة في الغرب. لكن القضية الأهم في الاجتماعات، والتي ربما لم تحظ بالتغطية الإعلامية كانت الموقف من «فك الارتباط» مع الصين.
وإذا كانت أمريكا نجحت في إقناع الأوروبيين ضمن مجموعة الدول الصناعية الغنية باستمرار دعم أوكرانيا مالياً، فلا يبدو أنها نجحت تماماً في إقناعهم باتباع نهجها في الصراع مع الصين. فأوروبا في الأغلب الأعم لا يمكنها سوى التصدي لروسيا، خاصة بعد حرب أوكرانيا، وهذا يجعلها في فلك الاستراتيجية الأمريكية لحصار روسيا وخنقها. أما بالنسبة للصين، فقد لا يكون الأمر كذلك.
تريد أمريكا من الأوروبيين أن يتخذوا خطوات عملية لمعاقبة الصين تجارياً واقتصادياً، وذلك ضمن استراتيجية إدارة الرئيس بايدن التي أعلنها قبل انتخابه عام 2020 بمواجهة صعود الصين وروسيا عبر تحالف غربي واسع تقوده واشنطن. فمن ناحية يحافظ ذلك على عالم القطب الواحد ومن ناحية أخرى يعزز دور الولايات المتحدة في القيادة مدعومة بتحالف أوروبي وغربي معها.
بالتأكيد لا تستطيع أوروبا، حتى الآن وربما في المدى المنظور، التخلي عن الحماية العسكرية الأمريكية وهذا ما يجعلها تتبع واشنطن في كل ما يتعلق بالتصدي لموسكو بل وتزايد على الأمريكيين أحياناً. أما فيما يخص الصين، فلا يرى الأوروبيون تهديداً عسكرياً مباشراً، حتى الموقف من تايوان لا يبدو مهماً للأوروبيين إلا بقدر تأثيره في التجارة العالمية.
لذلك، في الوقت الذي اتخذت فيه الإدارة الأمريكية إجراءات عملية هائلة ضد الصين، من مضاعفة الرسوم على السيارات الكهربائية الصينية نحو خمس مرات وفرض رسوم على منتجات صينية أخرى خاصة التكنولوجية، اكتفت أوروبا ببدء عملية تمحيص لما وصفته «الدعم الحكومي الصيني للصناعات» التي تنافس فيها شركات أوروبية.
ربما تصدر تصريحات أوروبية من هنا أو هناك تستخدم التعبير الذي اعتمدته واشنطن مبرراً لحربها التجارية مع الصين وهو «فائض الإنتاج»، لكن تلك مجرد تصريحات لا تعني الكثير عملياً. فالأوروبيون يخشون في حال اتخاذ إجراءات حمائية مع الصين أن تقابلهم بكين برد فعل يضر بمصالح الشركات الأوروبية. والمهم أنه في تلك الحالة لن تنفع الأوروبيين كثيراً علاقتهم «الخاصة» مع الولايات المتحدة. صحيح أن أمريكا أهم شريك تجاري لأوروبا، لكن التنافس موجود.
على العكس، أدت القوانين الأمريكية الأخيرة بدعم صناعات التكنولوجيا خاصة المتعلقة بالتحول في مجال الطاقة وتطوير تقنيات الرقائق وغيرها إلى استياء أوروبي، لأن المفوضية الأوروبية لا تستطيع توفير دعم مماثل للشركات الأوروبية. وبالتالي تنتقل الشركات من أوروبا إلى أمريكا لتستفيد من الدعم الحكومي بمليارات الدولارات.
وإذا كان الاقتصاد الأمريكي، أكبر اقتصاد في العالم، بمرونته وطاقته الواسعة يمكنه تحمل «فك ارتباط» ولو جزئي مع الصين، ثاني أكبر اقتصاد في العالم، فإن الاقتصاد الأوروبي لا يحتمل ذلك. من هنا يعد الموقف الأوروبي المتردد في التصدي القوي للصين ليس فقط حرصاً على العولمة التي استفاد منها الجميع بقدر ما هو حرص على المصالح الإقليمية الأوروبية قبل مصلحة النظام العالمي ككل.
قد يكون التصور الشائع أن الصين، وغيرها من الاقتصادات الصاعدة في العالم من الهند إلى البرازيل ومن جنوب إفريقيا إلى روسيا (دول بريكس)، هي المستفيد الأول والأكبر من العولمة الاقتصادية والتجارية وتطورها في العقود الأخيرة من القرن الماضي. لكن الواقع أن الدول الصناعية المتقدمة في الغرب ربما كانت أكثر استفادة من العولمة، وما لجوء تلك الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة إلى سياسات حمائية وانعزالية الآن إلا تعبير عن تصورها أن العولمة بلغت أقصى مداها ويتعين أن تبدأ في الاستقرار وربما التراجع.
تلك الاستراتيجية الأمريكية، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، تعني ببساطة أنه إذا كان لمنحنى العولمة أن يستقر في خط مستقيم (أي دون ارتفاع) فلا يجب أن تكون هناك مساواة في وضع القوى العالمية وأن تظل الولايات المتحدة قائدة ذلك الخط في مرحلة الاستقرار. وإذا كان لمنحنى تطور العولمة النزول للأسفل، فلتظل واشنطن النقطة الأعلى فيه وليس الصين أو غيرها.
ليس لدى أوروبا مشكلة في أن تحقق الاستراتيجية الأمريكية أهدافها، لكن ذلك شيء والدعم النشط الفعال لتحقيق ذلك شيء آخر. حتى لو كانت أوروبا راضية بقيادة الولايات المتحدة للمعسكر الغربي كله، إلا أنها لا تريد أن يكون ذلك على حساب الانتقاص الشديد من مصالحها وإبقاء دول القارة في مرتبة تزداد هبوطاً في سلم الوضع الدولي.
وربما ذلك ما حاول الرئيس الصيني شي جين بينغ اللعب عليه في جولته الأوروبية منتصف مايو التي زار فيها فرنسا والمجر وصربيا. وسبقتها زيارة المستشار الألماني إلى بكين. بالنسبة لصربيا والمجر، فهي بالفعل أقرب للفلك الصيني من الأمريكي. أما ألمانيا وفرنسا فهما أكبر دولتين واقتصادين في أوروبا وتحرص الصين على استمرار العلاقات معهما. فربما ذلك ما يبقي التوازن قائماً ويحول دون انهيار سريع للعولمة.
التعليقات