نايجل فارّاج (60 عاماً)، كبير الشعبويين البريطانيين، يصوغ الشعارات على قده مستفيداً من بلاغة صديقه دونالد ترامب، الرئيس الأميركي السابق، ويكتب بيانات انتخابية تبدو نسخاً من تصريحاته التي تُضحك الناس حيناً بطموحاتها الفضفاضة وتخيفهم أحياناً بما فيها من "أنا" متورمة وشعور بالاختلاف عن الآخر واستهداف متعمد للبيئة. يدلي بدلوه في الاقتصاد فيضع برامج فيها ثغرة لا قرار لها: يعد بإنفاق 140 مليار جنيه إسترليني من دون أن تكون في جيبه. وهو بذلك لا يسبق رئيسة الوزراء السابقة ليز تراس التي كادت تذبح الاقتصاد الوطني من الوريد إلى الوريد في "الكفاءة"، بل يتفوق على سلفها بوريس جونسون في طرح خطط هي مجرد أضغاث أحلام.

هو صائد فرص ماهر. يستعير شائعة أو نظرية مؤامرة و"يصنع من الحبة قبة"، لاستمالة بريطانيين يقول لهم بخفة دم وطلاقة ما يريدون سماعه. لا يبالي باستعمال معلومات مغلوطة، أو بتزويرها إذا لزم الأمر. فالصدق لديه وسيلة، يستعملها عندما تناسبه، فقط.

حينما ضُبط قبل أيام متلبساً بفعل السماح لنازيين جدد بالترشح باسم حزبه "ريفورم يوكي" (جددوا المملكة المتحدة) في انتخابات 4 تموز (يوليو)، نفى علاقته بالأمر. وحمّل آخرين المسؤولية، مع أنه يوصف بالزعيم المتسلط الذي لا يتنفس الحزب إلا بإذنه. واعتبر أن "الخطأ" كان نتيجة "خديعة" انطلت على حزبه. قد يُصدّق المرء لو كانت "الخديعة" المفترضة تتعلق بواحد أو خمسة من المتطرفين، وليس بـ40 مرشحاً!

والواقع، أن "ريفورم" الذي يتهم المهاجرين باقتراف ذنوب الدنيا والآخرة، ويوحي بتعصب قومي، هو الموطن السياسي المناسب لهؤلاء المتشددين لأنه يشبههم ويشبهونه أكثر من أي حزب آخر. فهل تنكر زعيمه لأشخاص من طينته بسبب الضجة التي أثارها افتضاح أمرهم؟

في مناسبة سابقة، زعم أنه استقال من قيادة حزب "استقلال المملكة المتحدة" (يوكيب) في 2016 لأن رئيسه بول أوكدان تعاون مع تومي روبنسون المعادي للإسلام. غير أنه على الأغلب انسحب لتفادي منافسة هذا المتمرد الغوغائي له على جمهورهما الواحد. وكان ينبغي أن يكونا حليفين، فبينهما وشائج مختلفة، عقائدية وشخصية وسياسية: فرّاج، صديق ترامب المقرّب، بينما يحظى روبنسون باحترام ستيف بانون مستشار الرئيس السابق ومروّج أفكاره. ونُسب أخيراً إلى روبنسون تأكيده دعم زعيم "ريفورم يوكي" في الانتخابات "لأنه يعبر عن أفكارنا بنجاح". كما دعاه بطريقة غير مباشرة إلى إلقاء كلمة في مسيرة ينظمها في لندن بتاريخ 27 تموز (يوليو). لم نقع على تعليق منه على التأييد المفترض أو الدعوة.

لكنه لم يذكر الروابط التي تجمعهما. ربما نسي، أو تناسى، الحقيقة مرة أخرى حين تطلب الأمر. فعل ذلك في الماضي مع البريكست الذي يشكو من خلل عميق ولم يكن البريطانيون ليوافقوا عليه لولا المسوغات المضللة التي اخترع معظمها فرّاج، مهندسه الأصلي. صار يعترف الآن بفشل البريكست. وعلى عادته، يلقي باللوم على آخرين أساؤوا إدارة مشروع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، في رأيه!

والشعبوي المخضرم متقلب. ما إن وقع الطلاق بين لندن وبروكس

ل، حتى اتخذ من الهجرة قضيته الأولى ونسي أوروبا التي حاربها منذ نعومة أظفاره في عالم السياسة. فقد صار في حاجة إلى عدو كبير جديد يساعده على التلاعب بمشاعر البريطانيين. وهل هناك أفضل من الهجرة للعب هذا الدور باعتبارها قضية بلا حل وتبقى تربة خصبة للتأجيج والاستغلال؟

وتجلى أخيراً تأرجحه الذي ينبع من الرغبة بانتهاز الفرصة المواتية، في تعاطيه مع الانتخابات الوشيكة. وقف أولاً موقف المتفرج منها، تاركاً "ريفورم يوكي" في عهدة رئيسه المليونير ريتشارد تايس الذي "يملك" الحزب حرفياً لأنه يدفع من جيبه، كما يقول، كل نفقاته. ثم لم يلبث أن وجه "إنذاراً" إلى ريشي سوناك بالتحالف معه.. وإلا! ولمّا رفض الأخير الرضوخ لابتزاز شعبوي يوزع "صكوك" الوطنية على من يشاء، دخل الحلبة متعهداً "جعل بريطانيا عظيمة من جديد"، متمثلاً هدف صديقه ترامب في أميركا.

وتقدم على رئيس الوزراء في استطلاعات الرأي في غضون أيام، بسبب ضياع الأخير وانقسام حزبه. وسرعان ما اتضح أنه ليس مهتماً حقيقة بهذه الانتخابات، فهو وضع التالية (2029) نصب عينيه من الآن ويريد أن يصبح رئيساً للحكومة بعد خمس سنوات. وقد يعاود الانتساب إلى حزب المحافظين مع أنه يسعى الآن بهمة ونشاط إلى قتله!

وكما يبدل المرء قميصه يغير الأحزاب، التي قاد أربعة منها حتى الآن إلى هزائم ساحقة. إلا أن المشهد السياسي البريطاني الحالي لا يشبه ما قبله. وكل شيء ممكن في هذه الأرض البكر، بما فيه اقتناص فرّاج مقعداً في مجلس العموم الذي حاول أن يدخله سبع مرات سابقاً من دون جدوى.

وفعلاً، تكهن استطلاع للرأي بفوزه في دائرة كلاكتون بـ42 في المئة من الأصوات، مقابل 27 في المئة للنائب المحافظ الذي يمثل البلدة من سبع سنوات. سيكون ذلك "معجزة" لأن التاريخ البرلماني البريطاني لم يشهد تحولاً في حصة الأصوات بهذا القدر.

وبصرف النظر عن الأسباب، إن وصول فرّاج إلى مستوى من النفوذ بات معه يهدد بسحق حزب حاكم يربو عمره على قرنين، يشكل في حد ذاته معجزة لهذا التيار الجديد نسبياً المتنامي باطراد في بريطانيا.

بيد أن ادعاءه في مقابلة تلفزيونية قبل يومين أن الغرب افترى على موسكو و"أجبرها" على غزو أوكرانيا، قد يؤذيه. التحشيد الواسع ضد روسيا منذ عقد أو اثنين، يجعل شريحة كبيرة من الرأي العام البريطاني تقف موقفاً معادياً لا يقبل التصالح معها. وسيكون زعيم "ريفورم يوكي" محظوظاً إن لم يؤثر تموضعه الأخير بوضوح في معسكر ترامب المؤيد للزعيم الروسي فلاديمير بوتين على حظوظه!