صارت حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضد فلسطينيي غزة، منذ قرابة تسعة أشهر، بمثابة نموذج للحروب التي تعتزم إسرائيل شنّها مستقبلا، وهو ما برحت تهدد به لبنان، إلى درجة أن الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريس، حذر من ذلك، في تصريح له بأن "شعوب المنطقة وشعوب العالم لا يمكن أن تسمح بأن يكون لبنان غزة ثانية".

في الواقع، ثمة عديد من المؤشرات تؤكد أن لبنان في دائرة الخطر، وإن إسرائيل تنتظر تشكيل مجموعة من الظروف التي تشرعن حربها ضده، بدعوى ضرب حزب الله، لإجباره على الانسحاب خلف الليطاني، في حال امتنع عن ذلك بوسائل الضغط السياسي، تماما مثلما إن خطة إسرائيل بضرب حركة "حماس"، تمخّضت عن حرب إبادة ضد الشعب الفلسطيني.

ثمة عدة مؤشرات إسرائيلية ترجّح، أو تدفع، نحو ذلك الخيار، لعل أهمها يكمن في التفاعلات الداخلية، في شأن الحؤول دون هجوم أكتوبر جديد في الشمال، من جهة حزب الله، مثلما فعلت "حماس" في غزة في الجنوب الإسرائيلي. يعزز من ذلك الخيار هيمنة حكومة المتطرفين (نتنياهو، سموتريتش، بن غفير) في إسرائيل، علما أن ضرب "حزب الله" يحظى بإجماع إسرائيلي، كحكومة وكمجتمع.

على الصعيد الخارجي فإن هذا الأمر، ورغم أنه لا يحظى بقبول مطلق من قبل إدارة بايدن، إلا أن تصريحات المسؤولين في تلك الإدارة تؤكد على استمرار دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في أي حرب في لبنان، باعتبارها حرباً دفاعية، في حال أخفقت الجهود السياسية في دفع "حزب الله" وراء الليطاني، علماً أن ثمة تيار أميركي قوي يهمه إضعاف إيران وميلشياتها؛ ولعل منظومات الدفاع الدولية، سيما الأميركية والبريطانية، التي اشتغلت لصد الهجوم الإيراني على إسرائيل (في أواسط نيسان الماضي)، والذي أتى كرد على قصف قنصلية إيران في دمشق، توضح، أو تؤكد، ذلك.

ومؤخرا أتى ضمن تلك المؤشرات تقرير "تلغراف"، الذي تضمن أن لدى “حزب الله" مخزوناً ضخماً من السلاح في مطار بيروت بصورة يمكن أن تلحق الضرر الكبير بالمدينة إذا اندلعت حرب؛ وهو ينم صراحة عن أن المنشآت المدنية، وكل البنى التحتية، في لبنان في دائرة المهداف الإسرائيلي.

إزاء كل ذلك فإن مشكلة لبنان، وهو دولة، أنه لا يشتغل كدولة بمعنى الكلمة، مع غياب رئيس، وفقدان حكومته للسيطرة، وبالتالي فقدان لبنان سيادته، لصالح النفوذ الإيراني، الذي يجعل من "حزب الله" صاحب الكلمة الفصل في خيارات لبنان السياسية، وضمن ذلك قرار السلم والحرب، في وضع يفتقد فيه لبنان الضعيف، من كل النواحي، لإجماع وطني.

في المقارنة بين لبنان وقطاع غزة، فإن لبنان دولة مستقلة، لكنه بات فاقداً للسيادة، في حين أن قطاع غزة هو كيان منفصل عن كيان أكبر هو السلطة الفلسطينية، وهي لم تصبح دولة بعد، إضافة إلى أن ذلك الكيان لم يتحرر بعد من الاحتلال.

بيد أن التشابه بين الإثنين أكثر، فمثلما الحزب يهيمن في لبنان، فإن "حماس" تهيمن في غزة، والاثنان يتغذيان من دعم إيران، وكلاهما يشتغلان من خارج المنظومة السياسية في بلدهما، إضافة إلى عدم حيازتهما على اجماع في مجتمعيهما، "حزب الله" في لبنان، "حماس" في غزة، علما أن كل واحد من الطرفين يهيمن في إقليمه بوسائل القوة العسكرية؛ من دون التقليل من حيازته على شرعية مجتمعية؛ بسبب عديد من العوامل، القوة العسكرية والموارد المالية والنفوذ الإقليمي، والفكرة السياسية المتعلقة بالصراع ضد إسرائيل بالطبع.

أيضا، يكمن التشابه في أن الإثنين، ومواردهما من الخارج، لا يتأثران، أو لا يخسران من مواجهة إسرائيل، وهو كثيرا ما عبرت عنه قيادات الحزب والحركة، سابقاً وراهناً، واعتبارهما أن الخسائر البشرية والاقتصادية والعمرانية، في لبنان كما في غزة، هي جزء من ضريبة المقاومة، وجزاؤها في الجنة. علما إن ذلك هو نتاج للعقلية القدرية، والإرادوية، التي أدارت الصراع ضد إسرائيل في قطاع غزة، في هجوم السابع من أكتوبر، ما قد يضع لبنان في دائرة الخطر، بغض النظر عن مدى استعداده لذلك، إذ يكفي أن يكون حزب الله مستعداً، أي مستعداً بسلاحه وإنفاقه وامداداته، مثلما حصل في غزة، بغض النظر عن قدرته على صد العدوان الإسرائيلي، أو حماية شعبه، أو تأمين مقومات حياته، في حال استهدفت البنى التحتية، وفي حال استهدف مطاره وموانئه وعمرانه، وفي حال بات العالم يتفرج عليه.

ولعل الميزة الوحيدة لوضع "حزب الله" في لبنان، إزاء وضع "حماس" في غزة، أن إسرائيل، ومعها الولايات المتحدة، تتطلعان إلى تطبيق القرار 1701، بانسحاب قوات "حزب الله" حتى نهر الليطاني، بالوسائل الدبلوماسية ووسائل الضغط السياسي، من دون أي مساس بقوة الحزب، أو بنفوذه في لبنان، طالما أن الطرفين (أميركا وإسرائيل) مازالا يريان أنه مازال بالإمكان الاستثمار في سياسات ونفوذ إيران في العراق وسوريا ولبنان، واليمن، في اضعاف تلك الدول، وابتزاز العالم العربي بنفوذ إيران، وميلشياتها المتعددة.

يقول الصحافي الإسرائيلي تسفي بارئيل: "لا يوجد، اليوم، أي إسرائيلي...يضع تطبيق نزع سلاح حزب الله...كشرط لاتفاق وقف إطلاق النار...أو اتفاق حول ترسيم الحدود بين إسرائيل ولبنان... الافتراض الاستراتيجي أن "حزب الله" ملزم أيضاً باليوم التالي، لذلك يجب عليه الحفاظ على مصالحه ومصالح إيران حتى بعد الحرب، إذا اندلعت، بحيث لا يفقد سيطرته السياسية في لبنان. من هنا فإن الاستنتاج هو أن الضغط التدميري على لبنان سيجبر "حزب الله" على وزن خطواته، على الأقل تقليل مستوى النار إلى أن يتم التوصل إلى وقف إطلاق النار في غزة الذي سيعقبه وقف كامل للنار في لبنان أيضا. عن "هآرتس"( 25/6/2024)

لا شيء يقيني في شأن التجاذب بين "حزب الله" وإسرائيل، فيما إذا كانت ستقتصر على الانتقال من عض الأصابع إلى كسر الأصابع أو ربما إلى حرب شاملة، قد تشمل إيران ونفوذها في المشرق العربي. ففي حرب 1982 ادعت إسرائيل ان حربها ستنتهي عند حدود الليطاني لهزيمة منظمة التحرير، لكنها وصلت إلى بيروت، وأدت إلى إخراج المنظمة من لبنان.