غسان زقطان
بعد 336 يوماً من الحرب على غزة لم ينتبهوا في إسرائيل إلى وجود الفلسطينيين، بصيغة أدق لم يكتشفوا وجودهم، وبصيغة أكثر دقة لم يرغبوا في تذكرهم أو رؤيتهم يتنفسون ويتحدثون العربية في جبال الضفة أو الجليل أو غزة، الأفضل أن لا نبصرهم ما دمنا لا نستطيع، حتى الآن، قتلهم أو ترحيلهم. من الصعب ملاحظة فلسطيني في الجدل العنيف القائم هناك بين المعارضة والحكومة، وبين العلمانيين والمتدينين، وبين اليمين واليسار، وبين السفارديم والأشكناز، لقد جرى اختصارهم، الفلسطينيين، في "حماس" وجرى اختصار "حماس" في يحيى السنوار، وأخيراً في المقطع الثاني السنوار، هذه حرب على السنوار، هو تقريباً الشخص الوحيد الذي يمكن تسميته، الشبح الذي يعيش تحت الأرض ويتجول في الأنفاق، الذي حملت مراسلة القناة 12 العبرية فردة حذائه من أمام ردم منزله بعدما فجره الجيش، والذي، بحسب مصادر أمنية مطلعة، "كنا على وشك العثور عليه، كانت القهوة دافئة حين وصلنا إلى النفق الذي كان يعيش فيه، والذي استطعنا التقاط صوته بمجسات عالية الدقة وتتبعنا رسائله"، الشبح الحي الذي يتجول تحت الأرض بينما سلاح الجو يقتل الذين يعيشون بلا أسماء فوقها، في تلك المساحة المسطحة المكشوفة على ساحل المتوسط.
الحديث عن "رجل الأنفاق" أكثر سلامة من الحديث عن الفلسطينيين، وتسميته تجعل الأمر محصوراً في البحث عن رجل فرد يمكن للموساد اغتياله كما جرت العادة، وتحت كل هذا يمكن مواصلة قتل الذين لا أسماء لهم.
في رواية الإسرائيلي عاموس كينان، ترجمة أنطوان شلحت وتقديم سميح القاسم، (نشرت في مجلة الكرمل العدد 13/ 1984) يحاول البطل اليهودي الهرب من تل أبيب إلى "عين حارود" في الشمال، في محاولته النجاة من انقلاب الجنرالات وسيطرتهم على كل شيء في "البلاد" وفرض الأحكام العسكرية ومنع التجول ومطاردة المعارضين وقتلهم، باستثناء منطقة صغيرة هي "عين حارود"، المقصود "عين جالوت"، حيث يمكن العيش بحرية بعيداً عن مطاردة الجيش، ولكنه، البطل، الكاتب غالباً لا يعرف الأرض تماماً أو طريقة الوصول إلى تلك المنطقة الحرة، "يتعين علي أن أجد عربياًُ، من دون مساعدة من عربي لن أنجح بالوصول إلى وادي عارة، كل خطتي للهرب مبنية على العرب"، يقول الراوي. هكذا ظهر محمود العربي الذي يعرف الطرق والكهوف والأنفاق ليكون دليل السارد في طريقهما معاً للنجاة من الجنرالات ومطاردة الجنود، الأنفاق والكهوف والسراديب تحت الأرض تشكل شخصية رئيسية في العمل، هناك يقبع التاريخ والحقائق وتتشكل الطريق إلى "عين حارود"، بينما على السطح يعيش الجيش والجنرالات.
رغم الملاحظات الكثيرة على العمل وعلى الحوارات وإسقاط صهيونية السارد على الوقائع والتاريخ، والشخصية الإسبارطية التي يتمتع بها البطل اليهودي من مهارات القتل والمعرفة والتفوق وصولاً إلى اكتشافه كنيس يهودي في أحد الكهوف، وهي ملاحظات أورد بعضها الراحل سميح القاسم في مقدمته، كذلك المترجم الناقد أنطوان شلحت، فإن من الصعب عدم خلق مقارنات بين الواقع الذي يتدحرج في إسرائيل الخطاب العسكري والأمني الذي يتشكل ليصبح تهديداً وجودياً حقيقياً، بينما تتواصل الحرب في غزة والضفة الغربية وعلى حدود لبنان في الشمال.
بحسب الإحصائيات الإسرائيلية حدث تحول ديموغرافي في وقت ما من عام 2022 في الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر المتوسط، عندما تجاوز عدد السكان العرب عدد اليهود بأغلبية ضئيلة ولكنها متسارعة النمو، بالنسبة إلى الإحصائيات الفلسطينية، فقد حدث هذا التحول في عام 2014 عندما تساوى العدد بواقع (6.100000) لكل منهما.
رغم ضجة الحرب الدائرة في الجبهات الثلاث، غزة والضفة ولبنان، وضجيج التظاهرات في شارع كابلان في تل أبيب وفي قيسارية حيث يسكن نتنياهو وشارع بلفور في القدس حيث منزل رئيس الوزراء، في البحث في وسائل الإعلام واستوديوهات الفضائيات وكتّاب الزوايا في الصحف، والجنرالات المتقاعدين والمؤتمرات الصحافية التي يجريها الجميع، عائلات الأسرى والمعارضة ونتنياهو، الذي يستخدم أخيراً في مواجهة صور الأسرى والرهائن في غزة خرائط ووسائل تعليمية ورسائل تبدأ من شعار "من النهر إلى البحر" بعدما طمس الضفة الغربية ونهر الأردن، وهو شعار استخدمه ابنه يائير المقيم في ميامي قبل شهور، رغم كل ما يحدث، إلا أن أحداً من هؤلاء لم يكتشف الأغلبية الفلسطينية، ولم يدرجها في أجندته إلا في سياق تغييبها.
لا يوجد فلسطينيون في الجدل القائم في إسرائيل، لا في برنامج المعارضة ولا في مطالبات أسر "الرهائن"، ولا تحذيرات إسحق بريك الجنرال الغاضب في تقاعده، ولا في خرائط نتنياهو ورسوماته التوضيحية.
لهذا ستطول هذه الحرب وستذهب أبعد من دون أن تصل إلى "اليوم التالي"، أو تهتدي إلى الطريق إلى "عين حارود". ستواصل تعثرها في الجثث والحطام مثل حرب تائهة بلا هدف.
التعليقات