هو واحد من قائمة طويلة من قادة «حماس» رحلوا، إما قتلاً أو اغتيالاً، لم يكن يحيى السنوار شخصاً عادياً في تكوينه منذ أن اشتبك مع العمل السياسي أو العمل العسكري، سواء خلف القضبان أو خارجها، روايات من زاملوه في السجون الإسرائيلية تحكي عن شخص كان لا بد أن يكون يوماً ما حديث العالم، أطلق شرارة الحرب، فاشتعلت المعادلات القديمة المتجددة.
فلسطين قضية لا يرتبط مصيرها برحيل شخص بعينه، فهناك سلسلة من الاغتيالات لقادة بارزين سياسيين وعسكريين ومثقفين ورجال أمن منذ عام 1948 وحتى الآن.
على الرغم من ذلك تظل القضية الفلسطينية كالجمر تحت الرماد، لا تنطفئ ولا تموت، ويوماً بعد آخر يكتشف العالم أن الفلسطينيين يتوالدون جيلاً بعد آخر، ويحتفظون بذاكرة الأسلاف، بينما تكتشف إسرائيل أن فلسفتها هذه محكوم عليها بالفشل والدوران في حلقة مفرغة، وأن الحل الحقيقي هو الخروج من نفق الخرافات القديمة، والاعتراف بأن هناك شعباً فلسطينياً، يتوطن في هذه الأرض منذ آلاف السنين، وأنه لا بد أن تتخلى إسرائيل عن سردية أرض بلا شعب لشعب بلا أرض.
وبعد مضي 76 عاماً، لا بد أن تعي إسرائيل الدرس جيداً، وأن الحل العالمي بدولتين يفهمه حلفاؤها بدقة، سواء الولايات المتحدة الأميركية أو الاتحاد الأوروبي، فالجميع يتفقون على حل الدولتين، من منطلق أن هذا الحل في صالح بقاء إسرائيل، على أن تكون لديها حدود معروفة، ودستور يرسم هذه الحدود، ومن المعروف أن إسرائيل ليست كسائر الدول الطبيعية، فهي لا تمتلك حدوداً ولا دستوراً.
هنا أستدعي تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما قال: «على إسرائيل أن تحترم القانون الدولي، والأمم المتحدة التي أنشأتها بقرار دولي، فالقضية لم تبدأ في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023، كما قال - عن حق - أنطونيو غوتيريش، الأمين العام للأمم المتحدة، إنما تعود إلى قرن كامل، ومن دون الإغراق في التاريخ، فإن قراري الأمم المتحدة رقم 181، 194 لعام 1947 اللذين نصا على وجود دولتين، لم تنفذهما إسرائيل قط، بل حصلت على ورقة الاعتراف وهربت بها في أدغال التاريخ، وراحت تمارس الرفض والتمرد على القرارات الدولية الصادرة من أعلى هيئة في المجتمع الدولي.
غير هذا كانت هناك مبادرات فكرية وسياسية منذ الأربعينات عن الحل للمسألة الفلسطينية بالكامل، لا نريد أن نذكر هنا حلولاً أخرى كانت إبداعية في زمانها، كحل الدولة الواحدة لكل من يعيش على أرضها أو حل الدولة الثنائية القومية، وقد قدم الفلسطينيون في أوائل السبعينات ورقة النقاط العشر للحل، مروراً باتفاقية أوسلو عام 1993، نهاية بالمبادرة العربية الجماعية التي صدرت في قمة بيروت عام 2002، ونصت على الأرض مقابل السلام.
إن كل هذه المواقف العربية المرنة من أجل سلام واستقرار الشرق الأوسط وصيانة العالم، قابلتها إسرائيل بالتمرد السياسي والعسكري.
قد يظن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، كما ظن أسلافه أن فلسفة الاغتيالات ستحقق أحلامه، وأنه سيجعل من إسرائيل قائدة الشرق الأوسط الموسع، كما قال من منصة الأمم المتحدة، وكرر ذلك بعد عدد من الاغتيالات لقادة وسياسيين في لبنان وغزة.
إن كل هذه الدماء التي أريقت وتراق، وإن كل هؤلاء الذين رحلوا هم علامات على طريق طويل يصل في النهاية إلى ضرورة وجود دولة فلسطينية، فإذا كان السنوار قد غاب عن المشهد، فإن القضية حية لا تموت، تسجل حضوراً طاغياً في كشوف غياب كل هؤلاء القادة.
منذ السابع من أكتوبر، أدركت شعوب العالم أنها أمام محنة لشعب يخضع لاحتلال استيطاني غير مسبوق، لا يشبه النماذج الاستعمارية من قبل، واكتشفت الشعوب أن قضايا الاستعمار التي انتهت لا تزال موجودة في فلسطين، وتدفقت حيوية الشعوب وعبّرت عن مواقفها من دون خوف أو وجل، وكشفت عجز المنظمات الدولية والمجتمع الدولي عن قمع تمرد إسرائيل، وبلغ الغضب حد أن نادت جماعات الرأي العام العالمية بأن فلسطين هي الأصل، ولم تخشَ اتهامها بالعداء للسامية أو لليهود.
أستدعي هنا موقف المخرج العالمي مايكل مور الذي وجه خطاباً نارياً إلى نتنياهو، قبل خطابه في الكونغرس، قائلاً له: «إنك ترتكب جريمة الإبادة الفلسطينية، وستحاكم أمام المحكمة الجنائية الدولية».
إن تجربة إسرائيل منذ النشأة علمتنا أنها لا تتخلى عن فلسفتها الاحتلالية الطامعة في السيطرة على مقدرات الشعب الفلسطيني، وقد تظن أنها ستفلت، لكن للتاريخ أحكامه المختلفة، وربما تجد إسرائيل نفسها هي التي تبحث عن وجودها، أو هويتها في منطقة، لا تتكيف على مر التاريخ مع الاستعمار، وتشكل رمانة الميزان في النظام الدولي شاء من شاء، وأبى من أبى.
التعليقات