محمد بن عيسى الكنعان

سقط نظام بشار، ومعه انتهى حكم البعث الدموي الذي جثم على أنفاس سوريا 61 عامًا، وكبلها بالنظام العسكري، والدولة البوليسية منذ انقلابه عام 1963م؛ فبعد نهاية حكم العثمانيين لسوريا عام 1918م عقب هزيمتهم بالحرب العالمية الأولى؛ أعلن قيام المملكة السورية العربية عام 1920م، إلا أن دول الحلفاء رفضت الاعتراف بهذه المملكة، فكان الاستعمار الفرنسي لسوريا وفقًا لاتفاقية (سايكس بيكو)، الذي استمر حتى جلاء المستعمر الفرنسي عام 1946م، حيث جرت انتخابات رئاسية فاز بها شكري القوتلي، الذي كان من أبرز قادة الحركة الوطنية ضد الفرنسيين، وصار رئيسًا للجمهورية السورية عام 1943م، ورُفع علم سوريا باللونين الأخضر والأسود وبينهما شريط أبيض فيه ثلاث نجمات تمثل (دمشق وحلب ودير الزور)، إلا أن الوضع السياسي لم يهدأ فلقد دخلت الجمهورية الوليدة بسلسلة انقلابات عام 1949م بدأها حسني الزعيم قائد الجيش، ثم انقلب عليه الضابط سامي الحناوي، الذي لم يدم بالسلطة طويلًا فقد انقلب عليه الجنرال أديب الشيشكلي.

خلال الفترة (1949 - 1951م) تولى السلطة هاشم الأتاسي (من الحزب الوطني)، الذي أُطيح به بانقلاب ثانِ قام به الشيشكلي عام 1951م منفردًا بالسلطة ومكرسًا لسطوة الحزب الواحد، فتم إبعاده عن السلطة في نفس العام، فحكم فوزي سلو لمدة عامين حتى عام 1953م عندما عاد أديب الشيشكلي بانقلاب ثالث؛ إلا أن الشعب السوري لم يقبل ذلك فخرجت احتجاجات طلابية ونجحت بخلعه في نفس العام، ومن ثم نفيه إلى البرازيل.

خلال الفترة (1954 - 1958م) نعمت سوريا باستقرار النظام السياسي عُرفت تلك الفترة بـ(ربيع الديمقراطية)، حكم خلالها مأمون الكزبري، وهاشم الأتاسي، وثم شكري القوتلي، الذي تنازل عن الحكم لصالح جمال عبد الناصر بعد إقرار الوحدة بين مصر وسوريا باسم الجمهورية العربية المتحدة. إلا أن هذه الوحدة تفككت عام 1961م، وعادت السلطة للسوريين بحكم (مأمون الكزبري، ثم عزت النص، ثم ناظم القدسي)، غير أن عام 1963م شهد تحولًا جذريًا في طبيعة النظام السوري بانقلاب قام به حزب البعث العربي الاشتراكي (تأسس عام 1953م)، حيث تقلد السلطة أمين الحافظ، وتم تغيير العلم إلى اللونين الأحمر والأسود وبينهما شريط أبيض فيه نجمتان. ولكن خلال سنوات حكم أمين حدث انشقاق داخل حزب البعث بين الجناح المدني (ميشيل عفلق وصلاح البيطار)، والجناح العسكري ممثلًا باللجنة العسكرية (صلاح جديد وحافظ الأسد)، فكان الانقلاب الثاني للبعث عام 1966م، الذي أطاح بأمين الحافظ، فصار نور الدين الأتاسي - وهو يساري بعثي - رئيسًا لسوريا، وحافظ الأسد وزيرًا للدفاع. وبعد أربع سنوات تمكن حافظ الأسد من الانقلاب على الأتاسي، وسمّى هذا الانقلاب بـ(الحركة التصحيحية) عام 1970م، وبعدها بعام صار رئيسًا للجمهورية العربية السورية؛ حيث أحكم قبضته الأمنية على مفاصل الحياة السورية بكل تفاصيلها. واستمر في السلطة 29 عامًا حتى وفاته عام 2000م، فتولى ابنه بشار الأسد السلطة بلعبة دستورية، وسقط نظامه في عملية (رد العدوان) 2024م.

اليوم طُويت واحدة من أبشع صفحات التاريخ دمويةً وجورًا، ودخلت سوريا الجريحة مرحلة غامضة، يرنو في عينيها الأمل، وتسري في سواعدها الطموح نحو بناء سوريا الجديدة، وتتطلع إلى غدٍ مشرق ومستقبل واعد يجعلها في طليعة دول المنطقة، خاصةً أنها تملك إرثا حضاريا عظيما، ومقومات متنوعة وموارد بشرية جيدة، لكنه غد ملبد بغيوم التحديات، ومستقبل محفوف بالتقلبات السياسية، والأطماع الدولية، وتناقضات المصالح الإقليمية، لهذا فسوريا لم تعبر بعد إلى شاطئ الأمان، ولم تجتز أمواج المفاجآت، فإسقاط نظام الحزب الواحد، نظام متجذر بالحياة السورية، ومتعمق في تفاصيلها، لن يكون أمرًا سهلًا أو طريقًا سالكةً، فلا زال القلق يُحيط بالجميع داخل سوريا وخارجها. فإن كانت الصدمة وقعت والزلزال قد حدث، فإن توابعه وارتداداته ما زالت تلوح بالأفق، وهي الإشكال الرئيس بالنسبة للسياسي السوري، وقلق المسؤول السوري، وهاجس المواطن السوري. فعلى الرغم من أن الفوضى لم تعم البلاد، ولم تُنهب الممتلكات العامة، ولم تقع حوادث سطو وجرائم قتل كظاهرة كما يحدث عادةً عند سقوط أي نظام ديكتاتوري، إلا أن الأمن العام ما زال تحت الاختبار، فإن كان السوري البسيط قد اعتاد الهدوء والالتزام التام بسبب سطوة الدولة الأمنية على مدار 60 عامًا، فما هو موقفه الفعلي اليوم وهو يستنشق عبق الحرية التي حرم منها يوم حكم البعث؟ بل ماذا عن أطراف عديدة وفاعلة لم تكشف عن مواقفها السياسية الحقيقية بعد، خاصةً عندما تُجرى انتخابات رئاسية، وبالذات عناصر إدارة العمليات العسكرية (تضم هيئة تحرير الشام، وحركة أحرار الشام، والجبهة الوطنية للتحرير، ومجموعات تركستانية) التي ما زالت في أتون الثورة؟ في مقابل ذلك ماذا عن بقايا النظام البعثي وأتباعه؟ هل سيسلمون بالأمر الواقع أم يقومون باستدارة كاملة بدعم خارجي للعودة؟ فإن كان هذا حال الداخل غير المستقر بعد! فماذا عن المحاور الإقليمية ومصالح الدول الداخلة فيها وارتباط ذلك بالاعتراف الدولي؟ وماذا عن القوى الكبرى التي ما زالت ترقب المتغيرات في المشهد السوري وتقيس المسافة بين دمشق وتل أبيب؟ إجابات هذه الأسئلة القلقة قد تكشف عن واقع الغموض في المشهد السوري وتحدد بوصلة التغيير، لكن يبقى ترتيب البيت السوري عملية محفوفة بالمخاطر، فهناك الأمن والاقتصاد، إذا تحققا واقعًا فيمكن القول إن سوريا ولدت من جديد.