عنونت صحيفة «النهار» اللبنانية لزيارة وليد جنبلاط لدمشق أنها كانت من دولةٍ لدولة(!). بيد أنه فيما وراء الكلام الإيجابي الكثير، كانت مفاجأة جنبلاط غير المتوقعة أن مزارع شبعا أرضٌ سورية! وليس المقصود هنا بحث الأصول القانونية للمسألة، والعلاقات اللبنانية - السورية في الماضي والحاضر، بل لفت الانتباه إلى أنه (في نظر جنبلاط) ما عادت هناك أرضٌ لبنانية محتلة تحتاج إلى «حزب الله» وسلاحه لتحريرها! وقد انطرحت المسألة بإلحاح عندما انسحبت إسرائيل من لبنان عام 2000، وكان لا بدَّ من حجة لإبقاء «حزب الله» على سلاحه فصارت مزارع شبعا وتلال كفرشوبا أراضي لبنانية محتلة من جانب إسرائيل ولا بد من تحريرها بالسلاح، ولا سلاح غير سلاح الحزب! في الأمم المتحدة تدخل مزارع شبعا في القرار الدولي الرقم 242 الذي يُعنى بالأراضي السورية المحتلة عام 1967، وهكذا نشأ مشهدٌ طريف: الحزب حليف نظام الأسد البائد (ووافقته الإدارة اللبنانية!) يعتبرها لبنانية، ونظام الأسد وليس إسرائيل فقط يعتبرها سورية. ومآل كلام وليد جنبلاط أنه ما عادت هناك حاجة إلى سلاح الحزب. لكنّ الحزب ومنذ شهورٍ بعد محاججات العام 2000 وبخاصةٍ بعد العام 2006 تجاوز المزارع المسكينة ليخبرنا أنه يريد تحرير فلسطين، وهو باعتباره واقفاً في وجه العدوان الإسرائيلي المستمر قوة ردعٍ ومقاومة وصولاً للتحرير عندما يؤون الأوان.

إنّ الحرب التي خاضها الحزب مبادراً لإسناد غزة لأكثر من عام، أسقطت الهزيمة فيها كل الدعاوى ومن الردع إلى التحرير أو من التحرير إلى الردع! بيد أنّ تصريحات مسؤولي الحزب الأخيرة تشير إلى نزعة إنكارٍ وغربة عن الواقع، فالمقاومة مستمرة، وثلاثية المقاومة والجيش والشعب قائمة وما تغير شيء على الإطلاق! هل يقول الأمين العام للحزب ذلك لأنه يريد تجديد الحرب؟ بالطبع لا، بل لأنه ومن موقع الممانعة المعروف يريد الاستمرار في تعقيد انتخاب رئيس للجمهورية بعد خلوّ المنصب لأكثر من سنتين. ويعبّر ثنائي «حزب الله وأمل» عن ذلك بالاعتراض على ترشيح قائد الجيش للرئاسة بحجة الحاجة إلى تعديل الدستور، ويمضي «الثنائي» للتقرير أنه مع مرشح «توافقي»، أي أن الأمر لا يحتاج إلى انتخابات تنافسية، فلا تظنوا أيها المعارضون أنه يمكنكم التمرد على رغبة «الثنائي» رغم انتكاسات الحرب، وسقوط نظام الأسد. وبذلك وفي أحسن الحالات يمكن أن يأتي رئيس ضعيف بلا لون ولا طعم ولا رائحة يستطيع الحزب التحكم به، سواء لجهة إنفاذ القرار الدولي الرقم (1701) أو لجهة إعادة بناء مؤسسات الدولة، وحسن إدارة الشأن العام، والحظوة بثقة المجتمعَين العربي والدولي.

لقد كاد الحزب يخسر كل شيء. لكنّ إيران لا تزال تصعّد لهجتها لجهة قوة المقاومة، والبحث عن طريق لإيصال الدعم إليها بعد أن انسدّت طريق الإمداد السوري، وضُربت شبكات الحزب من شتى الأنواع والأحجام. لكنّ الحزب يعلم أنه لا مجال للتمرد هذه المرة أو تعود الحرب حسبما ورد في مندرجات ملاحق القرار 1701. ولذلك؛ تأتي هذه المماحكة فقائد الجيش (ومعه «يونيفيل») مكلف إنفاذ القرار بدقة، وإذا صار رئيساً يزداد قوة ولا يعود هناك مجال للتحكم فيه!

تنصبُّ آمال معظم اللبنانيين على استمرار الهدوء بالداخل، وضعف الحزب عن إثارة المشاكل، وسقوط النظام الأسدي. وفي هذا الهدوء مصالح كبرى للشيعة أيضاً؛ إذ مَن الذي سيعيد الإعمار (ومعظم المهدَّم والمدمَّر في المناطق الشيعية) إن لم يكن العرب والأوروبيون والأميركيون في ظن إدارةٍ تحظى بالثقة والمصداقية. فالعسكر ما عادوا خياراً على الإطلاق، والعرقلة ما عادت تنفع لأنها تضر أول ما تضر الشيعة بعد أشهر الهول والكوارث!

إنّ هذا كله لا يعني أنّ خيار الرئيس العسكري هو خيار حتمي أو أنّ سلام لبنان وأمنه وإعماره مرتبط به. لكنّ الذين يدعمونه يعتبرونه الأصلح من حيث عدم الانحياز لطرف، والنزاهة والقدرة على اتخاذ القرار. والحق أنّ بين المرشحين من تتوافر فيه شروط الكفاءة ومميزاتها، لكنّ الأطراف لن تتفق عليه لأن بعضها يعتبره منحازاً أو خصماً.

هناك موقفان من الحزب وأوضاعه الراهنة، الأول يرى ضرورة المراعاة نتيجة الصدمة الهائلة، بحيث يمهد ذلك لعلاقات سلمية داخلية ومن ضمنها التوافق على رئيس. والموقف الآخر لا يرى التنازل على الإطلاق لا تجاه السلاح ولا في العمل السياسي أو نعود للمراوحة وتجاهل شروط إقامة الدولة أخيراً.

تتحسن الأمور في لبنان ببطء. لكن التأزم من حول الرئاسة إن تمادى فسيعيد الوضع كله للوراء وينال اللوم الجميع.