بينما يحتفل حوالي مليار و نصف مسلم بذكرى مولد خاتم الأنبياء و الرسل سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام ، تعيش حلب تحث وابل قصف الطيران و المدافع من كل الجهات و من كل الأطراف . فمشهد الدماء و المهجرين يؤلم كل قلب لازال يحمل ولو ذرة من الإنسانية، فهذه المشاهد المروعة و هؤلاء الصبية و النساء و الشيوخ العزل المستضعفين ما ذنبهم وما شأنهم بصراع القوى و تشابك المصالح الدولية والحسابات الجيو استراتيجية بين الدول الإقليمية و العالمية ؟
مبدئيا، ما يحدث في حلب من قتل وتدمير ليس بجديد على هذه المدينة المجاهدة، فعبر التاريخ تعرضت حلب لهجمات الغزاة فدمرت حلب أكثر من مرة لكنها قامت من جديد و استمرت ببنما انقطع نسل و أثر الغزاة و الطغاة المتجبرين ، فحلب بحسب منظمة اليونيسكو هي أقدم مدينة مأهولة في العالم و يعود تاريخ نشأتها إلى العام 12200 ق.م ، وقد عاصرت العديد من المدن القديمة مثل روما القديمة و بابل و دمشق...ومن تم فكانت محل نزاع بين العديد من القوى الإقليمية أنداك، ويكفي سرد كرنولوجي لأهم الغزوات التي تعرضت لها المدينة لفهم أن ما يحدث اليوم هو امتداد للأمس .
ففي نهايات القرن 9 ق.م تعرضت المدينة لهجمات الإمبراطورية الأشورية، ثم انتقلت فيما بعد لسيطرة المملكة البابلية الثانية و الإمبراطورية الإخمينية الفارسية . و في العام 333 ق.م استولى عليها الإسكندر المقدوني لتصبح جزءا من الإمبراطورية الهيلينية طيلة الفترة مابين 301-276 ق.م، ثم انتقلت بعد هذه الفترة إلىسيطرة الرومان و استمرت تحث الحكم الروماني إلى حين مجيء الفتح الإسلامي سنة 637م.
ومن باب أنطاكية استقبلت مدينة حلب الجيوش الإسلامية بقيادة "خالد بن الوليد" لتدخل المدينة في دين الإسلام، و تصبح قطبا مركزيا في الدولة الإسلامية فغيرت المدينة دينها و لغتها السريانية للتكلم بلغة القرآن الكريم .
ولم تنتهي محن المدينة مع الغزاة الأجانب ففي عام 353 ه تعرضت للحصار الخانق و التدمير و الاحتلال من قبل الرومان لكن تم تحرير المدينة. و مع انطلاق الحملات الصليبية عام 1108 تعرضت المدينة للعديد من الهجمات الصليبية و استمر مسار ضياع و نكوص المدينة إلى حين صعود نجم القائد المسلم الأمير "عماد الدين" و ابنه "نور الدين زنكي"، فأصبحت في عهدهما المدينة مركز للمقاومة الإسلامية ضد الفرنجة . وفي عام 1138كان التدمير على إثر زلزال عنيف ضرب المدينة فدمرها تدميرا كاملا و قتل نحو 230 ألف حلبي، لكن عمد القائد نور الدين زنكي على إعادة إعمار المدينة، و أخدت شكلها النهائي الذي استمر إلى عصرنا هذا قبل أن يتم تدميرها من قبل مغول العصر الحديث...
فما أشبه اليوم بالأمس.. !فاليوم تتعرض حلب مجددا لدمار و إبادة جماعية تحث أنظار الجميع عربا و عجما مسلمين ونصارى ، شرقاوغربا، شمالا وجنوبا... العالم كله اليوم يشاهد تدمير حلب بالبث المباشر، لاننكر أن بعض الهيئات و الجماعات و الأحرار من الرجال و النساء خرجوا في العديد من بلدان العالم لتنديد بهذا العنف و الهمجية و سفك الدماء المبالغ فيه. لكن إلى حد الساعة لم نسمع برد فعل رسمي صارم من قبل الحكام العرب الذين باعوا الشعب الحلبي بأبخس الأثمان، بعدما قدموا له في بداية الحراك الشعبي السوري الوعود و التعهدات بإسقاط رأس بشار الأسد ، أما عن المنتظم الدولي فأكاد أجزم أن أغلبية البلدان الغربية لا يهمها الدم السوري مادام أن الدم لم يصل إلى حدودها ...
نؤكد تعاطفنا و تضامننا مع إخوتنا في حلب و نحمل مسؤولية الدم الحلبي لكل حكام العرب بدون استثناء، فهم من فتحوا الباب للتدخل الروسي و الأمريكي والفرنسي و الإيراني..فالبلدان العربية أصبحت مستباحة للجميع و رقعة شطرنج في أيدي القوى الدولية... فقبل حلب دمرت بيروت و بغداد و طرابلس و مقديشو و غزة..فمن يتحمل مسؤولية هذا الدمار فإذا كانت اليوم طائرات روسيا تدمر حلب، فطيران أمريكا بالأمس القريب دمر مدينة بغداد ...
فالأدوار تتغير تبعا للظروف، فاليوم روسيا تتصدر المشهد في سوريا، كما تصدرت أمريكا المشهد بالأمس في العراق، الغريب في الأمر أن هذه المدن المدمرة هي عواصم للحضارة الإنسانية و الإسلامية فالحرب بدون شك هي حرب حضارية بامتياز، و المستهدف الأول هو الإسلام والمسلمين. قد يقول البعض أن الغرب يحارب الإرهاب و الجماعات المتطرفة، لكن من صنع الإرهاب و التطرف؟ أليس هذا التقتيل و التشريد للعزل هو قمة الإرهاب؟ ألم يتم تفريخ الجماعات المتطرفة في العديد من الأقطار لمواجهة الإسلام المعتدل أو ما يسمى بالإسلام السياسي ؟ ألم يتم تجنيد العديد من الشباب المسلم للقتال في أفغانستان ضد الغزو السوفيتي و تم ذلك بتخطيط من المخابرات الأمريكية وبتمويل من بعض بلدان الخليج ؟ ألم تتم الإطاحة بأنظمة منتخبة ديمقراطيا في الجزائر و فلسطين و مصر و تونس، لا لسبب إلا لميولها الإسلامية، مع أنها بعيدة كل البعد عن التطرف أو العنف. فالإرهاب صناعة غربية وكلاءها الحكام العرب، صناعة مقيتة تدفع الشعوب العربية و الإسلامية ثمنها دما وفقرا و تجويعا...
إن ما يحدث على أرض الشام بعامة و حلب بخاصة، يصعب وضعه تحث أي توصيف فهو عملية إبادة جماعية و تدمير مقصود للبلاد و العباد، فهذا الوضع لم يعد معه من المجدي السؤال عن من الجاني و من المجني عليه، صحيح أن بداية الأزمة كانت عبارة عن حراك شعبي مدني سلمي للمطالبة بالحريات المدنية و السياسية ،لكن للأسف تعنت نظام بشار الأسد و تدخل أيادي أجنبية لها حساباتها الخاصة أدخل سوريا في شلال دم نعرف بدايته لكن نهايته لا يعلمها إلا الله .
قبل أربع سنوات لا أنكر تعاطفي مع بشار الأسد و مواقفه من النظام الإقليمي العربي المفكك، وتوجهاته القومية و الإستراتيجية بتحالفه مع تركيا و روسيا و إيران و دعمه للمقاومة اللبنانية ، لكن اليوم رصيد هذا التعاطف قد نفذ لكون نفس الشخص ضحى بسوريا مقابل حسابات ضيقة تخصه، و تخص بالأساس حلفاءه . و الواقع أن "الظاهرة الأسدية" تشمل كل الحكام العرب الذين لا يترددون في سفك الدماء و تشريد شعوبهم مقابل تمسكهم بالمناصب و المكاسب.
فأي مكاسب و مناصب في ظل هذا الدمار فشوارع حلب أصبحت دما، و مدينة حلب في حاجة إلى قرن من الزمن لتستعيد عافيتها،و نفس الأمر ينطبق على سوريا و ليبيا و العراق و اليمن. فالغرب و معه الحكام العرب يجمعهم تحالف مقدس ضد الشعوب العربية و الإسلامية، فمصالحهم تقاطعت فكلاهما ضد عملية دمقرطة هذه المنطقة من العالم، فمخاوفهم مشتركة لأن استعادة الشعوب العربية لإرادتها كفيل بتغيير وجه المنطقة و العالم ككل. فقبل هذا التاريخ بحوالي 1400 سنة استطاع النبي محمد عليه الصلاة والسلام أن يخرج شعوب هذه المنطقة من ظلمات الجهل و التبعية والتقاتل إلى نور الإسلام ، فمن دون أدنى شك أن عودة شعوب المنطقة إلى هدي النبي محمد نبي الرحمة وعودتها إلى الوحدة و التكتل، يشكل حلم اغلب شعوب المنطقة . فعملية التدمير و التقتيل ماهي إلا حرب ضد الإسلام وضد مصالح و تطلعات الأمة.
فالتحدي بنظري ينطلق بداية من تحصين الإسلام، وذلك بإعادة الاعتبار للعلم و المعرفة، فالجهل يقود حتما إلى الفهم المغلوط للإسلام، فالإسلام دين يقوم على العلم لا الجهل، فالعقول المتعلمة المتصلة بدينها و حضارتها الإسلامية لن تقود إلا للحرية والاعتدال، فالشعوب المكبلة بالجهل و الاستبداد والفاقدة لإرادتها لن تبني تقدما و لن تشيد حضارة، فعلى الرغم من حالة سفك الدماء و دعم التيارات المتطرفة، بغرض إخافة الشعوب الإسلامية و دفعها للقبول بالتبعية و الاستبداد، فانه لا مفر من التحرر و الوقوف في وجه الحكم الاستبدادي، فالبديل هو الحرية والديمقراطية و حق الشعوب في تقرير مصيرها..لذلك فإن مأساة حلب هي مأساة كل الأمة العربية والإسلامية التي تبحث عن ذاتها .
*إعلامي و أكاديمي مغربي متخصص في الاقتصاد الصيني و الشرق آسيوي .
التعليقات