و(البعّاتي) هو الشخص الذي يعود إلى الحياة بعد موته . هكذا تزعم الأساطير الشعبية السودانية، منسجمة مع بنات جلدتها من أساطير الغرب التي تؤمن بالأشباح وقصصهم التي لا أول لها ولا آخر .

قطعا لا يحب صويحبكم أن يقابل يوما البعّاتي، كما لن تكون الأشباح محل ترحيب مني بأي شكل، ومع ذلك أهرع بطفولة إلى كل فيلم يتحدث عن الأشباح، وأسعد ـ مرتجفا ـ بقصص الموتي الأحياء التي تعج بها مخرجات هوليوود وغيرها !

أزعم أن أجمل ما في قصص الأشباح أنها تنتهي بانتهاء الفيلم أو السرد، وتطوي (أخطارها) بانتهاء العرض، فيعود المستمع أو المشاهد لواقعه مرة أخرى .. ليكابد أشباح المعيشة وكأن شيئا لم يكن.

لا أدري حتى الآن سبب الاحتفاء من عقلاء كُثر بالخرافة أو قصص الغموض والرعب، رغم أنها تتلف الأعصاب، وترفع الضغط، ولا أجد سببا لذلك سوى السعي للهروب من كآبة (المعتاد) .. إلى عوالم ستظل محلا للاستفهامات الأزليةحول الحياة وجديتها وعبثيتها ووجودها وعدمها وأصلها العميق ومآلاتها الكبرى !

كل ما يرتبط بالمجهول الماضي والحاضر والمستقبلي هومحل فضول إنساني لن ينتهي، وما زال الكثير من البشر في فنونهم وعاداتهم ومعتقداتهم مرتبطين بأمتن وثاق مع الأسطورة والخيال وجدليات الموت والحياة ومصير ما بعد الختام !

أذكر لقاءً متلفزا مع الشاعر السوداني العملاق محمد الفيتوري، أبدى فيه ميلا عاطفيا نحو القوى والمعارف الغامضة، وكان واضح الانحياز لأقاويل قارئات الكف، معللا ذلك بأن هناك أشياء لا يدركها العقل قد تكمن في معارف وعقول وعلوم غير معروفة للعامة .

حتى نزار قباني، الشاعر الشاهق، جلس مستكينا ذات يوم لعرّافة، لينجو مما يعتريه من حيرة وقلة حيلة، فكان النتاج عملا شعريا باهرا .. تمثل في (قارئة الفنجان) لتكون أيقونة بين نتاجه الشعري الثر .

والحكايا لا تنتهي عند حدود، فالهرولة صوب المجهول أسفرت عن وجهها بجلاء في المنافسات الرياضية، فبالإضافة لأعمال السحر للتحكم في نتائج المباريات، والتي تنتشر في كثير من البقاع، التفت العالم كله صوب ألمانيا خلال منافسات كأس العالم في كرة القدم عام 2010، حيث ظهر الأخطبوط (بول) الذي قيل بقدرته الخارقة على التنبؤ بنتائج المباريات .. ودخل الإعلام بقوة مروّجا لهذا الأخطبوط وقدراته الخارقة .. مما جعل الكثيرين ينتظرون بفارغ الصبر رأي (بول) لينعموا بمعرفة النتائج قبل قيام المباريات !!

هكذا يدخل الهوس في مفاصل الاهتمام البشري، وهكذا يتسلل المجهول الغامض حتى في قصور الحكم، حيث تواترت الأخبار عن ملكة السويد (سيلفيا) التي قالت إن قصرها الملكي مسكون بالأشباح، وهو ما وجد اهتماما من المتابعين، خصوصا وأن القصر المهيب يعود إلى القرن السابع عشر، ما يشحذ الخيال حول من سبق أن سكنوا المقر العتيق وطواهم الموت عبر أكثر من أربعة قرون مضت .

بصراحة أجد بعض العذر لما تراه ملكة السويد، ولا أستبعد أن تكون الأشباح معشعشة بقصور الحكم في كل دول العالم، بل ومتحكمة في قرارات الشعوب، وإلا فكيف لنا أن نفسر هذا الانزلاق العلمي المجهول نحو التحكم في الجينات، والتخليق بالتحكم في الشفرات الوراثية، والتسابق لتركيم أسلحة الدمار الشامل، وتصنيع الباكتريا والفيروسات في المختبرات، وتدمير البيئة في الكرة الأرضية بجنون، والسكوت عن كثير من المظالم والكوارث وبؤر الفاقة ومراجل الاحتراب في أرجاء المعمورة ؟!

كل قصور الحكم في العالم تعد عدتها لمعارك فناء شامل تتوقعها وتسير نحوها مغمضة العينين، وكل ظلامات العالم ومظالمه تمر عبر مراكز القرار الحاكم بشكل أو بآخر .. فهل تتحكم في مصائرنا النخب الحاكمة، أم هي الأشباح الساكنة هناك، حيث تقودنا لمصائرها، مستكثرة علينا نعمة الحياة .. رغم كل المنغصات المحيطة بالبشر ؟!

الإجابة ربما تحتاج للأخطبوط (بول) الذي نفق في 2010، أو لقارئة فنجان نزار قباني .. أو للبعّاتي الذي يطل علينا من هناك، ويعرف ما يتم التخطيط له لننطمر جميعا تحت براكين الفناء .

[email protected]