يعيش البشر على وجه البسيطة باطمئنان وشبه لامبالاة، فيما عدا فترات الكوارث الطبيعية كتفجر الباركين والأعاصير والعواصف والفيضانات والهزات الأرضية، فيعتقدون أن كل شيء هادئ وساكن تحت أقدامهم، ولا يشعرون بأنهم في حالة سفر وتنقل دائم داخل الكون المرئي في مركبة فضائية عملاقة إسمها الأرض. بيد أن الوسط العلمي يعرف حقيقة ما يجري ويبحث عن إجابات واستفسارات ويطرح تساؤلات عن الحياة والكون والأصل والمصير. احتضن كوكبنا الأرض الحياة منذ زمن بعيد جداً يكاد يضاهي عمر الأرض ذاتها، وإن كانت الحياة في نشأتها الأولى بسيطة وميكروسكوبية أو ما يعرف بالكائنات العضوية الميكروية micro-organismes، ولكن على الرغم مما تحقق من تقدم علمي وتكنولوجي خلال القرون الخمسة المنصرمة، منذ الثورة الصناعية في القرن السابع عشر، إلا أنه لا أحد من العلماء يعرف على وجه الدقة متى، ولا أين، ولا كيف، ظهرت الأشكال الأولى للحياة على سطح الأرض. ما هو محيطها وطبيعة البيئة التي انبثقت منها وتطورت فيها. هذا ما حاول العالم البريطاني تشارلس داروين الغوص فيها وتقديم إجابات أولية عنه في كتابه الذائع الصيت " أصل الأنواع" حول نظرية التطور والانتخاب الطبيعي. ويقدر تاريخ العضويات الأحفورية التي عثر عليها مؤخراً أنها تعود إلى 540 مليون سنة ولكن هناك بعض الأشكال البدائية من الحياة يعود عمرها إلى أكثر من 2 مليار سنة وهناك أشكال أولية أكثر بدائية للحياة على الأرض تعود إلى 3.5 مليار سنة. وهناك من يقدر هذا التاريخ في الماضي بــ 4.6 مليار سنة. ويعرف العلماء ايضاً أن الحياة في سيرورتها الأرضية ربما تكون قد تكررت أو حدثت على نفس المنوال وفي نفس السياق أو بطريقة مختلفة ومن عناصر مختلفة أو مشابهة للعناصر التي نشأت منها الحياة على الأرض ولكن هذه المرة على كواكب أخرى، سواء داخل منظومتنا الشمسية أو خارجها، وفي داخل مجرتنا درب التبانة وخارجها في مجرات أخرى بعيدة جداً تبعد عنا مليارات السنين الضوئية. والجميع على الأرض ينتظر استلام إشارات أو رسائل راديوية أو كهرومغناطيسية أو ضوئية من الفضاء الخارجي. نحن نعيش على أرض تدور حول نفسها كل 23 ساعة و 56 دقيقة، أي ما يعادل ساعات اليوم الواحد وبـخط العرض latitudeبــ 43 درجة وهذا يتطابق مع سرعة دوران تبلغ 340 متر في الثانية الواحدة باتجاه الشرق، هذه هي الحركة الأولى، أي دوران الأرض حول نفسها. أما الحركة الثانية فهي دوران الأرض حول الشمس بسرعة مدارية تقرب من 30 كلم في الثانية الواحدة وهناك حركة ثالثة وهي دوران الأرض حول مركز الثقالة أو الجاذبية في نظام الأرض – القمر وبمدة 27.3 يوم. والأرض والشمس والكواكب الأخرى في نظامنا الشمسي تدور كلها في أحد أذرع مجرتنا درب التبانة حول مركز المجرة، والمجرة ذاتها تدور حول نفسها وحول مركز استقطاب في سديم، من بين عدد لامتناهي من السدم الكونية، يضم مجموعة من المجرات المتجاورة رغم شساعة المسافات التي تفصل بينها داخل الكون المرئي، الذي هو بدوره ليس سوى جسيم ميكروسكوبي صغير يدور حول نفسه وفي نفس الوقت يدور حول مركز استقطاب في نظام معقد من تعدد الأكوان المتجاورة والمتداخلة والمتوازية، فالجميع في هذا الوجود المادي يدور بسرعات جنونية بلا توقف منذ الأزل وإلى ألأبد، فالحركة هي اللولب والأساس للوجود في زمن لامتناهي ليس له بداية و لا نهاية هو الزمن المطلق.
في كتاب " الاعترافات" كتب القديس والفيلسوف أوغسطين (354-430):" ما هو الزمن في حقيقة الأمر؟ إذا لم يسألني أحد فأنا أعرف، ولكن إذا طرح علي هذا السؤال وحاولت أن أشرح فإني سوف أقول أنني لا أعرف شيئاً " هذا هو حال العلماء اليوم فيما يتعلق بأصل الكون وبدايته الافتراضية التي تركزت اليوم في مفهوم البغ بانغ-الانفجار الكبير أو العظيم، أغلب العلماء تقبل الفكرة وتحولت إلى شبه مسلمة علمية ولكن عند الاقتراب أكثر والتمعن فيها بعمق والغوص في بتفاصيل تلك النظرية – الفرضية، يبدأ الخلاف وتنشأ الاجتهادات والتباينات والاختلافات الجوهرية خاصة عندما تبرز معضلة عدم توافق وتلاقي الدعامتين الأساسيتين في علم الفيزياء والكوسمولوجيا اليوم، وهما النسبية العامة والميكانيك الكمومي أو الكوانتي، وكلاهما يمنع ولوجنا إلى الأصل والبداية وما قبلها للكون المرئي فكلاهما يتوقفان عند اللحظة صفر في الزمن الذي يبدأ من هناك ولكن أي زمن يقصدون؟ لم يبق أمامنا سوى المخيلة والجرأة والإرادة في اقتحام المجهول حتى لو سقطنا في هوة الميتافيزيقيا.
كان يا ما كان في قديم الزمان و الأزل الذي كان، قصة طريفة وسيناريو جميل وفتان عن ولادة الكون والإنسان. كانت هناك نقطة خيالية أو متخيلة وافتراضية أو مفترضة لا حجم لها أو ذات حجم معدوم volume nul كما يقول الفيزيائيون، وكثافة لانهائية densité infinie – و لا أحد يعرف ما هي اللانهائية لأن اللانهائيات تشكل كوابيس للعلماء وسقوط ذريع للنظريات – وفريدة من نوعها سميت بالفرادة الكونية singularité، الأساسية أو الأصلية البدئية. وماذا بعد ¨منها انطلق كل شيء، ولد الكون وتضخم وانتشر وتوسع ومايزال يتوسع، وربما إلى ما لا نهاية. وهذه هي مرحلة مابعد البغ بانغ أو الانفجار العظيم. ولكن ما ذا كان يوجد قبلها؟ المرحلة الأولى في قصة الكون المرئي هي التضخم inflation حيث تضاعفت المسافات إثره وبسببه على نحو مهول يقدر بـعشرة أس خمسين 1050، وهذا رقم يعجز البشر العاديين عن تصوره أو تخيله ناهيك عن فهمه واستيعابه. وفي اللحظة عشرة أس إثنين وثلاثين بالسالب، 10-32 من الثانية الأولى بعد الانفجار العظيم تشكلت مختلف مكونات المادة والمادة المضادة والجسيمات الأولية، وبعد مرور 380000 سنة ظهرت النواتات أو النوى الذرية الأولى وتحررت الفوتونات التي كونت ما عرف اليوم بالأشعة الخلفية الكونية الميكروية الأحفورية المنتشرة fond diffus cosmologique التي كنا بالكاد نعرف عنها شيئاً يذكر، وبتنا نعرف عنها الكثير اليوم بفضل تلسكوب بلانك الفضائي الذي زودنا بما نحتاجه من معلومات عن البداية الكونية المفترضة من خلال دراسة وتحليل تلك الأشعة الكونية الأولى. وما ذا بعد؟ تستمر الحكاية على طريقة الحكواتي في القرون الخوالي. احتوى الكون على مادة ومادة مضادة باريونية baryonique، أي طبيعية عادية، وأخرى غربية الأطوار ومجهولة الماهية وغير مرئية سميت بالمادة السوداء أو المعتمة أو الداكنة matière noire، التي افترض العلماء أنها هي التي تؤمن وتضمن، بفضل قوة الجاذبية فيها، تماسك المجرات الحلزونية galaxies spirales وحشود وتجمعات أو كوكبات المجرات amas de galaxies، وانطلقت التكهنات والفرضيات والاجتهادات والمضاربات والاحتمالات المتضاربة حول طبيعة هذه المادة الغامضة واللغزية وقيل أنها مكونة من جسيمات غريبة خاصة جداً غير حساسة و لا تتفاعل مع القوى الفيزيائية المعروفة النووية القوية أو الشديدة والكهرومغناطيسية و لا تبث الضوء و لا ترتبط بأي شكل من الأشكال بالنوى الذرية ولا أحد قادر على تصور شكلها وكميتها وحجمها وكتلتها على وجه الدقة. إلى جانب طاقة لاتقل عنها غرابة وهي الأخرى مجهولة الماهية وتعرف بالطاقة المعتمة أو الداكنة أو السوداء énergie sombre، المادة العادية والطاقة العادية توضحها معادلة آينشتين الشهير:" الطاقة تساوي الكتلة مضروبة بمربع سرعة الضوء E=Mc2، بالنسب التالية: فالمادة والطاقة العاديتين تمثلان ما يعادل = 4.9%، والمادة السوداء تساوي = 26.8%، أما الطاقة المعتمة أو الداكنة فتساوي = 68.3%، وهذا يعني أن كل ماهو موجود في الكون المرئي من مادة وطاقة عاديتين يتكون منهما كل شيء مرئي وملموس لا يصل حتى إلى 5% من مكونات الكون المرئي الكلية وإن نسبة 95% من مكوناته مجهول لدينا ولا نعرف عنه شيئاً.
وها نحن اليوم أما مفترق طرق، بين ما قبل وما بعد. فالنظرية الكونية الكوسمولوجية المعيارية المبنية على معطيات النسبية العامة الآينشتينية وقانون هابل تقول بأن الكون المرئي بدأ من نقطة الفرادة ولا معنى لأي زمان ومكان قبلها من الناحية الفيزيائية فهي تمثل البداية وبعدها حصل التضخم والتوسع الكوني وتباعدت المجرات في نسيج الزمكان الآينشتيني بسرعة هائلة تفوق سرعة الضوء بكثير، ولكن في النموذج الكوسمولوجي البديل المبني على نظرية الأوتار الفائقة théories de supercordes والثقالة الكمومية أو الجاذبية الكوانتية أو الكمومية الحلقية théorie de la gravitation quantique à boucles، كانت التأثيرات الكمومية أو الكوانتية les effets quantiques، هي النقطة اللامتناهية في الصغر التي انبثقت عنها مكونات الكون المرئي من مجرات ونجوم وكواكب وأقمار وغازات كونية الخ.. لكنها لم تكن نقطة معدومة الحجم، وهو نموذج احتوائي ekpyrotique بعدة صيغ ونماذج متعددة، يسبق الانفجار العظيم مما يفتح الطريق لكون سابق للكون المرئي وسابق للانفجار العظيم، وإن الانتقال من كون لآخر ليس سوى عملية ارتداد rebond إثر تعاقب انفجار وتقلص أو إنكماش مستمرة، وتأتي نظرية أكثر جرأة وجموحاً هي نظرية تعدد الأكوان théorie de multivers ونظرية العوالم المتعددة théorie des mondes multiples لتغرقنا في محيطات الخيال العلمي كما يعتقد الكثيرون في الوقت الحاضر رغم أنها نظريات علمية رصينة تدرس في أرقى جامعات العالم اليوم.
يتبع
التعليقات