أعرف سيدة ألمانية عاشقة لتونس عشقا عجيبا. لذا تتعدّد زياراتها لها أكثر من مرة في السنة الواحدة. وهي تحب أن تأتيها بالخصوص في فصل الخريف والشتاء والربيع. أما الصيف فتتجنبه لكثرة ضجيجه. وغالبا ما تقضي أكثر من ثلاثة أشهر في مدينة المهدية حيث الهدوء والسكينة و والبحر الجميل. وقد عاينت أنها تدمن على قراءة الكتب التي تتحدث عن تاريخ تونس، وعن عاداتها وتقاليدها.
وكانت هذه السيدة الألمانية التي تقيم في ضواحي مدينة ميونيخ ، قد زارت بلدانا متوسطة كثيرة مثل اليونان، وتركيا، وإيطاليا، وإسبانيا،إلّا أنها ترى أن تونس هي الأجمل بين كل هذه البلدان. ورغم أنّها لا تتكلم سوى لغتها الأم، فإنها تمكنت من ربط علاقات وثيقة مع أهالي المهدية حتى أن هؤلاء أصبحوا لا يترددون في دعوتها إلى حفلاتهم الخاصة. وخلال زيارتها الأخيرة إلى تونس في الربيع الماضي، تناولنا الغداء في مطعم صغير بالحمامات. وعلى مدى ثلاث ساعات تقريبا، ظلت تونس بتاريخها، وعاداتها، وتقاليدها، وثقافتها ، موضوعا لحديثنا الشيق والممتع. وقد قالت لي السيدة الألمانية بإن ما جذبها إلى بلادنا هو بساطة العيش فيها. وجميع الذين تعرفت عليهم في المهدية أو في مدن أخرى، طيّبون، وكرماء. ورغم حاجز اللغة، فإنها تمكنت من أن تنفذ إلى خفايا حياتهم. أمّا الشيء الآخر الذي فتنها فهو التنوع الثقافي والحضاري. فعندما يطوف السائح في تونس، يجد نفسه أمام معالم وآثار الحضارات والثقافات التي تعاقبت عليها في مراحل مختلفة من تاريخها القديم والحديث.
ظلت السيدة الألمانية تتحدث عن تونس بحماس وإعجاب ، ثم فجأة توقفت عن الحديث. وها أنا ألمح سحابة أسى على ملامح وجهها، وفي عينيها الرماديتين. بعد لحظات من الصمت، قالت لي:» لكن هناك بعض المظاهر تؤلمني وتحزّ في نفسي كثيرا!»...بعدها راحت السيدة الألمانية تستعرض المظاهر التي لم ترقْ لها في بلادنا. وأولى هذه المظاهر هو قلة العناية بالبيئة والنظافة. وهذا ما عاينته في المدن الكبيرة وفي القرى الصغيرة. كما عاينته في الحدائق العامة، وعلى الشواطئ، وفي الحقول، والمزارع.، وفي أماكن كثيرة أخرى. وتعتقد السيدة الألمانية أن جل التونسيين ليسوا واعين بما فيه الكفاية بالتعدد الحضاري والثقافي لبلادهم. لذا هم يتعاملون مع هذا التنوع بكثير من اللامبالاة والإستخفاف.وبشيء من الغضب، قالت السيدة الألمانية:»إسمح لي بإن أقول لك بإن مثل هذه المظاهر تجعلني أشك في أن هؤلاء يحبون بلادهم حقا".
وأظن أن السيدة الألمانية على حق في ما ذهبت إليه. فأنا أيضا أعيش صدمات يومية تقريبا بسبب قلة العناية بالبيئة والنظافة، والذي إزداد إستفحالا خلال السنوات الأخيرة بسبب الفوضى، وإنعدام الأمن، وعدم إحترام عدد كبير من المواطنين للقوانين. فهم يعتقدون أن "ثورة الحرية والكرامة" التي أطاحت بنظام بن علي في مطلع عام 2014 تبيح لهم أن يفعلوا ما يشاؤون وما يريدون. لذا هم لا يترددون في إلقاء الفضلات في الشوارع، وفي الساحات، وأمام البيوت. كما يسمحون لأنفسهم بتخريب الحدائق العامة، وتشويه المعالم الأثرية، وتحطيمها، وفي تحويل الأرصفة إلى موقف لسياراتهم.. وأغلب بيوت النظافة في المطاعم وفي المقاهي والملاهي مخربة ومعطلة ووسخة. وهناك محطات نقل لا يجد فيها المسافر مكانا واحدا للإستراحة أو لقضاء شؤونه الخاصة. وفي العاصمة ، وفي أغلب المدن الكبيرة الأخرى ، ثمة شوارع يتحاشى الإنسان السير فيها بسبب الفضلات المتراكمة، والروائح الكريهة المنطلقة منها. وعلى جوانب الطرقات ، يشاهد المسافر أعدادا وفيرة من العلب ومن الأكياس البلاستيكية. لكأن بعض التونسيين يجدون متعة في تخريب طبيعة تونس الجميلة ، وتشويه مدنها، وحدائقها، وشواطئها، وغاباتها، ومزارعها.
والأمر لا يتعلق فقط بالعناية بالبيئة والنظافة، بل هناك مظاهر أخرى أشد خطرا على البلاد والعباد. فخلال السنوات العجاف الماضية، برز في الساحة السياسية شعبيون وثورجيون متفننون في زرع الفتنة والفرقة بين التونسيين. ومستغلين ضعف الدولة، هم لا يترددون في إثارة النعرات القبلية والعشائرية لتمزيق أوصال تونس، وجعلها مسرحا للإقتتال الدموي. وهذا ما تعكسه أحداث كثيرة في مناطق مختلفة في الجنوب التونسي. كما استفحلت مظاهر الفساد، وكثر المفسدون الذين يعملون على تخريب الإقتصاد الوطني، وتدميره. وثمة أحزاب ومنظمات لا عمل لها سوى تأجيج المشاعر البدائية، وتحريض الناس على نشر الفوضى والخراب في كل مكان. وجميع هذه المظاهر سوف تكون عائقا كبيرا أمام بناء الدولة المدنية والديمقراطية التي يطمح إليها التونسيون منذ أمد طويل.
والمؤسف جدا هو صمت المثقفين عن كل هذه المظاهر السلبية والخطيرة. فنحن لا نقرأ لهم ما يبرز حبهم لّتونس الجميلة" التي تغنى بها الشابي في جل قصائده. كما لا نقرأ لهم ما يفيد أنهم معنيون حقا بحاضر تونس ومستقبلها. وفي ه الصيف الماضي،أتت حرائق على غابات مناطق الشمال، فلم تتحرك همم المثقفين للتنديد بهذه الأعمال الإجرامية. ونحن نعلم أن جل الأحزاب التي تتحرك في المشهد السياسي راهنا، تعمل على إقصاء المثقفين وإبعادهم، وحرمانهم من المساهمة الفعلية في بناء المجتمع الجديد الذي يطمح إليه التونسيون. إلاّ أن هذا لا يمكن أن يبرّرَ بأي حال من الأحوال صمت المثقفين،و استقالتهم. فالمثقفون هم دائما وأبدا ضمير شعبهم ومجتمعم. لذا يجدر بهم أن يكونوا دائما وأبدا في قلب الأحداث ليثبتوا أن الحب الحقيقي لتونس ليس كلاما معسولا يطلق في الهواء، وإنما لا بد أن يكون فعلا في الواقع الملموس أولا وأخيرا.