من المؤكد أن كثيرين يعدّون ما حصل في كل من تونس ومصر "ثورة" بمعنى ما، وهم محقون في ذلك، بحكم المظهر، إلى حدّ ما. على أنّ هذا لا ينفي أن البداية كانت انتفاضة، كما أنهما كانتا غير مسبوقتين في سيرورتهما، لذا من الممكن اعتبارهما "قدح زناد الانتفاضات" في محيطهما.

ما سبق يمكن اعتباره مسوّغاً لتناول حادثتين اجتماعيتين متشابهتين، بل متناظرتين إلى حد بعيد، من منظور قانون فيزيائي/ طبيعي بحت. ولم لا، ألم يعمد شيخنا ابن خلدون إلى البيولوجيا، في تناوله وصف صيرورة الدول.&

الأنتروبيا، أو مبدأ كارنو، أو القانون الثاني للديناميكا الحرارية، أو قانون انحطاط الطاقة، الذي لا يناقض أصلاً قانون انحفاظ الطاقة، لولا أن الأنتروبيا اكتشفت أن من طبيعة الطاقة أنها تنحطّ، يعني تعود إلى الفوضى، مثل حطبٍ، اختزنت شجرته طاقة استمدتها من أشعة الشمس ومن الهواء عبر سنين، اشتعلَ في دقائق ثم غدا رماداً تذروه الرياح.&

كانت الأنتروبيا حاضرة بكل قوة في البلدين قبل انتفاضتيهما. فاحتكار السلطة، وناتجه الطبيعي الإرعاب بحجة الاستقرار، بالتالي فهو المبيح للفساد، المتيح لنمطيته بالاستمرار، المؤدي إلى ضمور فرص إقامة مشاريع كبرى، مما يسهم في زيادة حجم البطالة بازدياد أعداد الشباب المتعلمين والخريجين، الباحثين عن مصائرهم في مجتمع "أنتروبياه"، الاقتصادية والسلوكية آخذة بالازدياد، ناسفة أمالهم قاذفة إياها إلى ثقب أسود، يُراكِم ما يقترب منه من شذرات طاقة بُعثرت بفعل قانون انحطاطها.

الأنتروبيا قانون طبيعي لا تتوقف مآلاته عن سيرورتها، وإذاً يغدو السؤال: من أين جاءت القوة الدافعة للانتفاضة، ذات الحجم الذي أخذ بالتعاظم يوماً بعد يوم؟! مشروعاً.

لقد جاءت من نقيضها، فكما أن علماء الفضاء والفلكيون مازالوا لا يعرفون ماذا يجري داخل الثقب الأسود بدقة، كذلك ما عرف الحكام، ولا حلفاؤهم من إيديولوجيين ومن متعاطي الشأن العام، واقع ما يجري في المزارع والحارات والأزقة والشوارع والأسواق، مما يولّد طاقة مستجدّة من اختزان ما يُهدر/ ينحطّ منها، كما يفعل الثقب الأسود من طرفه الآخر فجأة، فما من سياسيين بينهم عارفين ماهية الواقع حقاً، فالأنتروبيا فعلت فعلها في الحكومة والسلوك العام.&

نجمت تلك القوة الدافعة عن كمون تحريض الواقعية الوجودية والبنيوية لأولئك الشباب المؤهلين والمتعلمين، المكوِنين المحتملين للطبقة المتوسطة الحديثة حاملة عبء الانطلاق والتطوير، المنطلقين من مدارس ومعاهد وكليات، أقيمت بحجة تأمين مستقبل الأبناء "الأعزاء"، ذلك المستقبل المسروق، في خِضَمّ هيمنة سرطان الفساد، الممتلئين أحلام يقظة، الحاضنين كماً متعاظماً من الطاقة الحيوية والأسلوبية، الناظرين إلى مستقبل تسوده الحرية والعدالة.&

طاقة كانت تُضغط وتضغط ثم تُضغط بفعل سطوة الأحادية الطاغية وزبانيتها، والفساد ومفاعيله الهابطة أنتروبياً بالقدرة الشرائية، وتشجيع الاستهلاك إلى حد السفه.

كانت صفعة شاب كغصن السنديان، ومقتل شاب ركلاً بأقدام الجلاوزة، القادح المباشر لانتفاضة "بيغ بانغ بشري حضاري". هَدَرَ فقط: مللنا حالنا وكرهنا عيشنا وسئمنا إدارتكم، التي تخالونها قيادة، فالقادة، يكونون في المقدمة مقدمين الأمثولة، لا يتنعمون، بتكثير المقتنيات وتجميع السلطات، في برج قلعة مصمتة لا يصلها صخب الأصوات الهادرة في الساحات والميادين. بل علّهم لا يرغبون سوى في سماع أصواتهم التي خمدت أصداؤها بفعل الأنتروبيا أيضاً.....