لم يأت قرار الحكومة التونسية ببناء جدار عازل على امتداد مساحات هامة من الحدود التونسية مع الجارة ليبيا من فراغ، فقد أصبحت الحدود الليبية مع تونس تشكل هاجسا أمنيا جدّيا للدولة التونسية.&
بالمقابل، هنالك شكوك حقيقية ومعقولة حول جدوى اقامة هذا الجدار بملاحقه من سواتر رملية وخنادق، خاصة وأن هذا السور لا يمتد على كامل الحدود التونسية الليبية بل يقتصر على 128 كيلومترا تمتد من معبر رأس جدير إلى معبر الذهيبة، من جملة مسافة تقدر بـ460 كيلومترا.
الارهاب في الداخل&
في الواقع، الموقف الرسمي لم يأت على كل الحقيقة، وإن قدم جزءا منها حينما شخّص حالة العمليات الارهابية في تونس ومصدرها والجهات التي تقف وراءها. ولعلّ عمليتي باردو وسوسة الارهابيتين، واللّتين راح ضحيتهما عشرات السيّاح الأجانب، كشفتا عن وجود بعض التقصير وغياب اليقضة الأمنية وبطأ التعاطي الأمني المحترف مع الهجمات الارهابية المسلحة في الوقت المناسب. وهو ما دفع بالحكومة لاقالة بعض المسؤولين والقيادات الأمنية في كل مرة يحصل فيها هجوم مماثل.
في هذا دليل على أن قضية الارهاب في تونس لا تقتصر على الحدود مع ليبيا، وأن الارهاب لا يأتي من ليبيا فقط، التي تعتبر محطة عبور ومعسكر تدريب وخزان أسلحة ضخم للارهاب. فالمتشددون الذي ينفذون العمليات في تونس أغلبهم من حاملي الجنسية التونسية، وأغلبهم سافر إلى ليبيا للتدرب على القتال والقنص والتفجير ثم عادوا بعدها لتونس برتب عسكرية وتنظيميّة لتطبيق ما تدربوا عليه من قتل وتدمير، في مسار دائري مغلق، ذهاب وعودة، تماما مثلما فعل سنة 1980الكومندوس التونسي المعارض لحكم بورقيبه، الذي سلحه ودربه القذافي ليعود لتونس بعدها عبر الحدود الليبية لقلب نظام الحكم بالقوة العسكرية، غير أنه فشل.&
لذلك، فإن قدرة الجدار على توفير الوسيلة الممكنة لمراقبة الحدود بطريقة أسهل وصدّ جانب هام من تجارة السلاح والتهريب وتنقل الارهابيين، هذه القدرة عاجزة، حسب الكثير من المراقبين والمحللين، على منع وايقاف مثلا، ما بات يعرف في تونس سخرية بحزب "افرح بيّه" وهي ظاهرة تتلخص في وجود بعض من عناصر الأمن والديوانة الذين لا يجدون حرجا في ترك بعض المهربين وتجار السلاح وأمراء السوق الموازية من المرور مقابل بعض المبالغ مالية. مع العلم أن هؤلاء التجار: مثلما يهربون البضائع فإنهم يهربون كذلك السلاح والذخيرة.
إذا فليبيا ليست المصدر الحصري للارهاب في تونس وإن كان البعض من مسؤوليها خصوصا في نصفها الغربي ضالعون فيه عبر احتضانهم لهجرات المتشددين التونسيين وتوفير شتى صروف الدعم اللوجستي والمادي والعسكري لهم، وإنما العامل الداخلي له دور كذلك. وحينما نتحدث عن العامل الداخلي لا نقصد فقط التقصير الأمني وظاهرة حزب "افرح بيّه"، بل نتحدث أيضا عما بات يعرف بجهاز الأمن الموازي الذي زرع في وزارة الداخلية حينما كانت الترويكا بقيادة حركة النهضة (اسلام سياسي) في الحكم، مما خلق ولاءات أمنية لأحزاب سياسية داخل الوزارة على حساب ولائها للدولة، واتّهم جهاز الأمني الموازي بالتغاضي عن نشاطات التنظيمات المتشددة بل والتورط مع بعضها (تنظيم أنصار الشريعة) حسب افادات بعض قيادات النقابات الأمنية.
هذا العامل الداخلي يعتبره بعض المراقبين الأخطر على أمن البلاد وسيادة الدولة لأنه يعتبر بمثابة حصان طروادة الذي اخترق حصون الدولة من الداخل وسيساهم في اسقاطها بقصد أو بغير قصد.
إلى ذلك، جاء بيان مليشيات غرفة عمليات فجر ليبيا مفاجئا نوعا ما وفجّا بشكل كبير، حيث لم يقف عند الاعتراض على بناء الجدار دون استشارتهم، على أساس أنهم "دولة" أو "نظام سياسي" معترف به دوليا!؟ وإنما تمادوا لاعلان الحرب على "الجدار" واتخاذ كل الاجراءات العنفيّة لتعطيله!
ولسائل أن يتساءل هنا: لماذا هذا البيان الصادم والعنيف من مليشيات فجر ليبيا ضد الجدار وضد الدولة التونسية في آن واحد؟ ألم تقل هذه المليشيات سابقا أنها تعتبر نفسها حصنا ضد زحف العناصر الداعشية لتونس؟ فإذا بنا نجد انه حصلت عدة هجمات بعد تصريحاتهم أهمها هجمة باردو وبعدها هجمة سوسة، حيث كشفت التحقيقات أن منفذها سيف الدين الرزقي ينتمي لتنظيم داعش الذي تبنى العملية، وتدرب في معسكرات تنظيم انصار الشريعية الارهابي المحظور في مدينة صبراطة غرب ليبيا، التي تبعد 45 كيلومترا عن الحدود التونسية في منطقة تقع تحت نفوذ مليشيات فجر ليبيا وأنصارها!؟
غموض الملابسات التي تحوم حول هذا الجدار، وردّة فعل تنظيم مليشيات فجر ليبيا الحانق، وسرعة الشروع في انشائه، يحيلنا إلى فرضية أخرى تقف وراء هذا الجدار. ولربما هي ضعيفة او مستبعدة لكنها تدخل في باب الممكن، خاصة ونحن نتعامل يوميا مع المعلومة ونقيضها، ولم تعد هنالك من يقينيّات في علاقات الدول فيما بينها فما بالك بالتنظيمات المليشياويّة، هذه الفرضية تقول انه إلى جانب أسباب بناء الجدار التي عللتها الدولة التونسية وقد سبق ذكرها، فإنه من الممكن ان تكون كذلك ردة فعل عقابية مؤجلة لتنظيم مليشيات فجر ليبيا الذي سبق وأن خطف دبلوماسيين تونسيين على خلفية ايقاف أحد قيادات التنظيم في تونس بتهم متعلقة بالارهاب.
في كل الحالات، تبقى الحكومة التونسية حرّة في انشاء ما تريد من أسوار وسواتر وجدران عازلة على حدودها ما لم تتخطى القانون الدولي، لكن الاشكال الإيتقي يكمن في ان هذا الجدار هو بمثابة العلامة السوداء في خريطة البلدين التاريخية، حيث ارتبط مصيرهما ببعض منذ حقبة البونيقيين مرورا بالغزو العربي حتى عهد البيات الذين وجد بعضهم فيها ملاذا آمنا بعد هروبهم من الدسائس والاغتيالات والتصفيات الدموية التي ارتكبوها ضد بعضهم البعض.
لذلك من الواضح أنه بقدر ما لهذا الجدار من "ايجابيات" بقدر ما له من سلبيات ومن مزيد تجذير الفرقة بين الشعبين الأخوين. كما ان قضية الارهاب والعنف والهجمات الدامية لن تتوقف في يوم وليلة ولو بني ألف جدار ونشر مائة ألف أمني. فالارهاب في تونس له ارتباطات برجال اعمال نافذين وسياسيين مرتزقة وشبكة معقدة من المصالح. وإذا لم تتخذ الحكومة التونسية قرارات صعبة وجريئة لاصلاح المؤسسة الأمنية وتطهيرها، وإذا لم تتصد بحزم للبعض من رجال الأعمال الفاسدين ومافيات المال والتهريب والمتاجرة بالسلاح، فلن يتحقق لها الاستقرار والأمن بشقيه الاقتصادي والمدني، لأن الحلول الترقيعية لن تأتي سوى بنتائج وقتية وباهته، والسواعد الضعيفة لن تقدر على البناء.&
&*صحافي تونسي مقيم بالدوحة
التعليقات