عانى التونسيون طويلا، شأنهم شأن جيرانهم في مختلف أمصار العالمين العربي والإسلامي وقارتهم السمراء، وكذا نظرائهم في الأقطار المتخلفة عن ركب الحضارة في شتى أصقاع الدنيا والتي اصطلح على تسميتها بـ "بلدان العالم الثالث"، من ظاهرة استبعاد معيار الكفاءة في التعيينات السياسية والإدارية وحتى الحزبية، والإستعاضة عنه إما بالولاء لصاحب القرار، أو بالإنتماء إلى عائلته الصغيرة أو أسرته الموسعة التي تضم الأقارب والأصهار وأحيانا أصهار الأصهار وإن "سفلوا"، أو بالإنتماء إلى عشيرته أو قبيلته أو حتى جهته (خصوصا في تونس). والأمثلة في تاريخنا القديم والحديث عديدة ومتعددة في هذا المجال.
فحتى عصر الخلافة الراشدة، الذي نعتبره مرجعا ونضفي عليه هالة من القداسة، باعتبار انتمائنا إلى مذاهب أهل السنة، شهد الكثير من هذه الممارسات خصوصا في زمن خلافة سيدنا عثمان بن عفان. حيث عرف عن هذا الصحابي الجليل محاباته لأبناء عشيرته من بني أمية وتنصيبه لهم في مواقع هامة وحساسة الأمر الذي ساهم، وباتفاق جل المؤرخين ودون الخوض في التفاصيل، في تلك النهاية المأساوية لـ"ذي النورين"، الذي كان بالنهاية بشرا خطاء رغم محاسنه وسيرته الرائعة والجديرة بالإعجاب.
وشهدت دولة الإستقلال في تونس، ممارسات من هذا القبيل رغم أنها بشرت في بدايتها بالقطع مع مساوئ الحقبة الملكية ومع منطق الحاشية التي تحتكر القرار في المركز لدى ثلة من أبناء العائلة الحاكمة والمقربين. فطغى المنطق الجهوي على كثير من التعيينات وتمت مراعاة التوازنات بين المنتمين إلى موطن الزعيم وبين أبناء الحاضرة مسقط رأس الماجدة رحمها الله، وقد تضمنت شهادات بعض وزراء الزعيم بورقيبة، سواء المدونة منها في كتب أو التي ألقيت في محاضرات في عدد من المنابر، إشارات صريحة أو ضمنية إلى هذه المسألة.
ولعبت الصداقات أيضا دورا بارزا في بعض التعيينات في تلك الحقبة،& فتمت تسمية بعض زملاء دراسة الإبن، أو أصدقاء وأبناء أصدقاء الأب، في مواقع هامة وحساسة، وكان من بين أصحاب الحظوة هؤلاء، الغث والسمين على حد سواء. أي أن البعض قد أثبت جدارته بالثقة التي منحت له، فيما أخفق البعض الآخر بما كلف بإنجازه من مهام في الدولة، وهو ما تثبته الوقائع وأيضا شهادات زملاء في الحكومة عاصروا هؤلاء.
ولم يشذ حكم زين العابدين بن علي عن القاعدة وتواصلت معه هذه الممارسات، إن لم تكن قد استفحلت، وقد قيل الكثير وتم إثبات الكثير في هذا المجال مما يندى له الجبين. لكن معارضيه من "الإسلاميين" و"العلمانيين" لم يختلفوا عنه ولم يقدموا البديل الثوري في الممارسة، بل ساروا على دربه وعينوا الأقارب والأصدقاء والموالين ولم يحرك أنصارهم ساكنا بل برروا وأوجدوا الذرائع، فما دامت هذه الممارسات صادرة عن شيخهم الجليل فهي تصنف في خانة "الحلال" ولا يمكن بأي حال من الأحوال الإعتراض على مشيئته.
لقد أصبح السيد صهر الشيخ بقدرة قادر جهبذي عصره لدى جوقة المطبلين من أنصار الحركة الإسلاموية والسوبرمان الذي لا يوجد من يفوقه قدرة على تسيير شؤون ديبلوماسيتنا العريقة. واقتحم الموالون والأنصار والمتزلفون وحتى "الحربائيون" ممن غيروا الولاءات بسرعة عجيبة مختلف المواقع على حساب الأكفاء، فهذا ميكانيكي بات سفيرا في دولة جارة وذاك تقني سامي أصبح مديرا لإحدى الإذاعات، أما الآخر فقد سمي وزيرا وهدد المعارضة بالويل والثبور ولم يتعد مستواه الدراسي السنوات الأولى للمرحلة الثانوية.
واستمر الحال على ماهو عليه مع حكومة التكنوقراط برئاسة السيد مهدي جمعة فضاقت الأرض بما رحبت على بعضهم فاقتصرت خياراتهم على تسمية ابنتي وزير ومسؤول أمني أسبقين، وكأن إبنة الوزير يجب أن تكون بالضرورة وزيرة وتسير على خطى والدها، وكأن البلاد التونسية أصبحت عاقرا ولم تنجب من نسائنا الكفوءات سوى سليلة هذا المسؤول السابق أو ذاك.
ولا يبدو أن عصر ما بعد المرحلة الإنتقالية سيختلف عما سبقه، خاصة وأن الأنباء القادمة من القصر الرئاسي بقرطاج، إن صحت، فهي لا تبشر بالخير إطلاقا. فهناك حديث عن ولاءات وصداقات ومصاهرات رجحت كفة بعض الأشخاص في التعيينات التي تمت في انتظار تشكل الحكومة لتتوضح الأمور أكثر ويتم إستجلاء الخيط الأبيض من الخيط الأسود، ولو أن ما يحصل في كواليس النداء يؤكد هذه الممارسات سواء حين تعلق الأمر بإعداد القائمات الإنتخابية في التشريعيات أو حين تعلق الأمر بتسمية أعضاء المجلس الوطني والمكتب التنفيذي.
ولعل ما يبعث حقيقة على الأسى أن معارضي الحكم الجديد ممن عبروا عند الإعلان عن نتائج الإنتخابات عن خوفهم من التغول وعودة الإستبداد ليسوا أفضل حالا ممن تسلموا مقاليد الأمور لتوهم. فهذا أحدهم عين سابقا وزيرا في حكومة الترويكا الأولى قبل أن يستقيل منها فأصبحت زوجته نائبة عن الشعب بدلا عنه في خلافة آلية تبعث على السخرية، وهي تلازمه كظله أينما حل سواء حين تعلق الأمر باستقالته من حزبه السابق أو عند تأسيسه لتيار جديد يبدو أنه عائلي بامتياز.
وذاك زعيم من معارضي بن علي الأشداء يضم مكتبه السياسي شقيقا له استحوذ على الظهور الإعلامي حتى نسي الناس الرئيس الذي مني بهزيمة نكراء في الإنتخابات الأخيرة ونسوا أيضا الأمينة العامة للحزب التي ترتبط بعلاقات مصاهرة مع الأخوين. فأحزابنا جميعا (مع استثناء وحيد أو إستثناءان في أفضل الحالات)، بإسلامييها وعلمانييها ويمينها ويسارها، هي أحزاب عائلية وغير ديمقراطية، ولم تعرف منذ تأسيسها رؤساء فعليين غير المؤسس ومن يدور في فلكه من الأقارب والأصهار والموالين.

&