&
مؤشرات كثيرة تنبيء عن تغيرات واسعة تجتاح المجتمع المصري يصعب إدراك كنه نتائجها وما يمكن أن تؤول إليه أو يتفجر عنها، هنا نحاول اختصارا أن نضع بعضها ثم ننظر إلى إمكانية ما ستؤول إليه في حال استمرارها. في مقدمتها ما قد يراه البعض عودة إلى حالة السبات العميقة التي عاشها في السنوات الوسطى من حكم مبارك، أي ما بين أوائل التسعينات وحتى منتصف العشرية الأولى في الألفية الثالثة، والتي كانت توقعات الثورة تخرج يوميا من المعارضين وأحاديث الرأي العام في الشارع ومع ذلك لم يحدث شيء، حيث تعاطت الأغلبية مع الفساد والقهر والقمع والفقر وصارت جزءا لا يتجزأ من منظومة الانهيار، ولولا حركات الشباب التي انطلقت مع حركة كفاية عام 2005 ونبهت وحذرت مما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في البلاد من ترد، ما كانت لثورة 25 يناير أن تقع، ومن أجل ذلك يحرص النظام الحالي على قمع وسجن هؤلاء الشباب، وعلى الرغم من إدعائه محاربة الارهاب إلا أنه يتعامل مع المتعاطفين والمؤيدين لجماعات الاسلام السياسي الارهابية بهدوء ودون غلظة عكس ما يشاع أو يظهر في الصورة الاعلامية، وخير دليل إنه حين قرر الافراج عن بعض المحكوم عليهم في قضايا قانون التظاهر، كان ممن عفى عنهم من ساهم في حرق الكنائس والأقسام عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة، ولم يفرج عن الذين خرجوا سلميين رافعين لافتتات تنتقد قانون التظاهر أو المحاكمات العسكرية.
وثانيها حالة التمرد والبلطجة والعنف التي تتسع دوائرها يوما بعد الآخر داخل الشارع وتطال استقرار المناطق الفقيرة والمتوسطة، وذلك بفعل العصبيات الأسرية والشللية والبلطجة، ولا تجد رادعا من أجهزة الأمن الغائبة والمشغولة فقط بما يطلق عليه محاربة الارهاب، تاركا الشارع نهبا لكل من يملك القدرة على البلطجة وفرض نفسه بالسلاح، لذا تنهب الارصفة والشوارع في المناطق الشعبية والمتوسطة حيث يستولي عليها أصحاب المقاهي والمحال التجارية والبقالة والفاكهة والأكشاك وغيرها.
ثالثها الانفلات المتواصل والجنوني لأسعار كل ما له علاقة بالغذاء والدواء والمواصلات والسكن والتعليم والصحة في ظل تجلي واضح للامبالاة من قبل التجار والباعة في ظل غياب أي آلية رقابية، وترك الأمور مفتوح للجشع، وقد انعكس ذلك على انتشار الفقر ليطال موظفي الدولة وشرائح واسعة من الطبقة التي كانت ميسورة حتى نهاية عصر مبارك.
رابعا انتشار واسع لدوائر الصمت والتكتمن عن الادلاء برأي في الشأن السياسي أو الأوضاع والأحداث التي تمر بها البلاد، حيث لم يعد الناس يتداولون آراءهم على المقاهي وفي الأماكن العامة ووسائل المواصلات وأماكن العمل وغيرها، وإن تم ذلك يتم على نطاقات ضيقة بين الأصدقاء والزملاء الموثوق فيهم، فزوار الفجر ـ مصطلح يعود إلى فترة الرئيس جمال عبد الناصر ـ أو المداهمات التي تقوم بها أجهزة الأمن إلى البيوت ليلا أو فجرا اتسعت، مع العلم المسبق لدى جمهور الناس بأن هناك شرطة سرية تم اطلاقها أخيرا مختلفة عن الشرطة السرية القديمة ـ المخبرين ـ حيث أن أغلبها من الشباب ويرتدي ما يرتديه الشباب العادي، لذا فالحذر والشك أمر واجب بل فرض عين في الأماكن العامة والعمل والمواصلات وغيره، وهذا يؤشر إلى عمق الحالة القمعية التي وصلت إليها البلاد.
خامسا اختفاء مظاهر التدين سواء منها الشكلية أو الموضوعية خوفا وفزعا ورعبا من المطاردة الأمنية بعد أن أصبحت المساجد ووسائل المواصلات والأماكن العامة والعمل والأندية تحت أذن وعين الشرطة السرية، وتجلى ذلك واضحا بمتابعة حالة المساجد وتراجع أعداد المصلين بما في ذلك صلاة الجمعة التي تعتبر مقدسة بالنسبة لجموع المسلمين، فحتى أولئك الذين يصلون يحرصون على صلاتها، وتوقف المقاهي والمحال وغيرها عن إذاعة القرآن الكريم التي كانت بمثابة عادة، كما اختفت المصاحف وقراءها من وسائل المواصلات والأماكن العامة وحتى المساجد، حتى أنه في رمضان توقفت حلقات قراءة القرآن بعد العصر أو الفجر كما كان معتادا في رمضان.
سادسا مظاهر التدين لم تختف وحدها بل اختفت معها مظاهر الاهتمام بالاعلام المرئي والمسموع والمقروء، فلم تعد تسمع نقاشات للمواطنين حول هذا البرنامج وما جاء فيه أو ذاك، ويتضح ذلك بشكل كبير في البرامج السياسية خاصة التي كان يتم متابعتها بشكل واسع النطاق خلال السنوات الخمسة الماضية، وفقد الكثير من مذيعيها حضورهم كأبطال أو نجوم، وذهب الأمر بالشارع عندما تطرق الأمور لذكرهم إلى سبهم والتهامهم بالنفاق والفساد واللصوصية وانهم سبب البلاء الذي يضرب البلاد.
سابعا ارتفاع حالات الانتحار الصامتة فلا يكاد يمر أسبوع أو أسبوعين إلا وتوجد حالة انتحار بالوسيلة الأكثر تقليدية وكأن في الأمر رسالة إلى أولى الأمر، حيث يلجأ المنتحرون إلى الحبل طريقة للانتحار شنقا، وللأسف لا يتابع الإعلام الظاهرة ولم يوضع الأمر محل دراسة أو نقاش في ظل غيبة من الدارسين الاجتماعيين والمثقفين وانشغال هذا الاعلام بالطبل والزمر لهذا المشروع أو ذلك من مشاريع النظام.
ثامنا وطبقا لأحاديث مباشرة مع طلاب في مرحلتي ما قبل الجامعة والجامعية أن هناك انتشارا واسعا لحالات الإلحاد بين الجنسين يقابله ميلا إلى الانضمام إلى جماعات الاسلام السياسي التي تتخذ العنف وسيلة للتعبير عن الرأي والتغيير، يعني لا وسطية في الأمر، إما الإلحاد وإما العنف والارهاب، وللأسف أن ذلك نتاج تدهور وخراب في منظومة التعليم، واستحسان وزارات التعليم وهيئات التدريس في مختلف الجامعات بما فيها جامعة الأزهر للخيار الأمني العنيف ضد طلابها على خيار الحوار والنقاش والاحتواء.
تاسعا ضمور التيارات السياسية الحزبية وغير الحزبية فلم تعد تشكلا وزنا لدى القيادة السياسية ولا لدى جمهور الناس في الشارع، ومما يؤسف له أن أحزاب كبيرة كالوفد والتجمع آلت أمورها أن أصبحت جزءا من النظام الحاكم بل أصبح دورها يقوم على حماية هذا النظام والدفاع عن وجوده، وهو الأمر الذي فصلها عن الشارع ولم يعد ضمن عضويتها إلا المستفيدين وتجار الغرف المكيفة.
عاشرا تراجع الإيمان بإمكانية الاصلاح والقضاء على الفساد واللصوصية، فبعد مضي عام على حكم الرئيس عبد الفتاح السيسي وإصراره على استخدام واستعمال نفس آليات ووجوه نظام الرئيس المخلوع مبارك الذي قامت عليه ثورة 25 يناير، فقدت الأغلبية الغالبة من المصريين الثقة في إمكانية إصلاح أحوال البلاد والعباد، وللأسف بدأت ترى فيما يجري هو الأسوأ منذ قيام ثورة 25 يناير.
الحادي عشر: تصاعد نفوذ رجال الأعمال وعملائهم في الحكومة ومؤسسات وأجهزة وهيئات الدولة وجميعهم يدينون بالولاء لرأس المال الخاص بهم والربح ولا يهمهم من قريب أو بعيد تحسن الوضع الاقتصادي للبلاد أو تحسن أوضاع المواطن، كما أن تملكهم لشبكات القنوات الفضائية والصحف الخاصة والمستقلة، فضلا عن أذرعهم الممتدة داخل القنوات الرسمية والمؤسسات الصحفية القومية، كل ذلك جعلهم يتلاعبون بالبلاد نظاما وحكومة ودولة بالطرييقة التي يرونها تتناسب مع طموحاتهم.
اثنا عشر تبجح الكثير من المسئولين داخل الدولة على الدولة، فقانون الحد الأقصى للأجور لم يبق منه شيء، حيث استطاع الكثير من الجهات تعطيله فيما يخصصهم مثل القضاء والبنوك وغيرهم.
ثالث عشر انتشار ظاهرة الكذب بين المسئولين والتعتيم الاعلامي ولي عنق الحقائق فيما يتعلق بحقيقة ما يجري على الأرض من أحداث سواء تعلقت بالمواجهة مع الارهاب وعناصر الجماعات الارهابية أو فيما يتعلق بالمشروعات الكبرى التي تنفذها الدولة.
نكتفي بهذا القدر من المؤشرات المسموح لنا الإشارة إليها، حيث أن هناك مؤشرات يصعب التصريح بها، لنرى أن أبرز النتائج التي يمكن أن تؤدي إليها هذه المؤشرات والمرتبطة إلى حد كبير ببعضها البعض:
أولا عودة الايمان بثورة 25 يناير والانتصار لها ولرموزها والكفر بما جرى بعد ذلك برموزه كافة بما في ذلك ثورة 30 يونيو باعتبار أن الأخيرة لم تحقق ما كانت يصبو إليه من خرجوا فيها، فقد كان الهدف هو التخلص من الفاشية الدينية، فإذا بالفاشية الدينية مع الفاشية العسكرية يحكمان مقاليد الأمور ويقتسمانها فالكنيسة والأزهر يقتسمان النفوذ والسلطة الآن جنبا إلى جنب الرئاسة والسلطة العسكرية.
ثانيا انتشار دوائر العنف بين مختلف فئات الشعب المصري وفي مقدمتها العنف القبلي والعائلي والأسري والطائفي أيضا، فتحت ضغط الفقر والحاجة والقمع الأمني سيكون العنف داخليا بين أفراد الشعب، وقد ظهرت تأكيدات ذلك في صعيد مصر بني سويف وسوهاج، قنا وأسوان، وخلال الفترات القريبة الماضية وقعت أكثر من معركة سقط فيها العديد من أفراد هذه العائلة أو تلك، وفي حوادث قتل الأب لأسرته وغيرها، وحالات انتحار شباب وأزواج.
ثالثا انفلات أخلاقي غير محدود وقد ظهرت مقدمات ذلك في أكثر ما حادثة ضبط شبكات دعارة، حتى لقد صرحت إحدى المقبوض عليهن أنها متزوجة وتحسن من دخل الأسرة، وعمليات هجرة غير شرعية وأخيرا تم القبض على 47 شابا من محافظة البحيرة أثناء محاولتهم الوصول لليونان.
رابعا فتح باب التجنيد للتنظيمات والجماعات الارهابية من المناطق الأشد فقرا كمدن وقرى ونجوع الصعيد والدلتا حيث يكثر المؤهلون لبيع أنفسهم هروبا من الفقر والحاجة بغض النظر عن الدين وما يمثله، ومما يؤسف له أن هؤلاء غير موجودين على خارطة الحكومة بالاطلاق، بل تظن الحكومة أن هذه المناطق غير مؤثرة وآمنة، في حين أن أخطر الارهابيين في عهدي أنور السادات وحسني مبارك خرجوا منها.
خامسا قناعة المواطن أن الدولة بكامل أجهزتها مشغولة بمحاربة الارهاب، وأنها تعتبر أن هذه المهمة تجب أي مهام أخرى، جعله ينأى بنفسه ويلتزم الصمت والكتمان ويفقد الأمل في نجدتها له أو إصلاح شئونه ويبدأ في التصرف كأنها غير موجودة&
سادسا نشأة التنظيمات والجماعات السرية والتي ستجد الأرض ممهدة للتشكيل ووضع قواعدها للعمل، الأمر الذي قد تظهر نتائجه على المدى القصير والطويل، مع ملاحظة أن هذه التنظيمات والجماعات كانت قد بدأت في التشكل خلال الثلاث سنوات الأخيرة لكن الضربات الأمنية اجتثت ما نبت منها، لكن ذلك لا يعني إمكانية وجود أو بدء إنشاء مثل هذه التنظيمات.
سابعا إن شرارة بسيطة وتافهة قد تؤدي إلى حدوث انفجار كبير وهائل، ينظر إليه أنه سوف يبتعد في خروجه عن طريقة خروج 25 يناير، فلا يتوقع في ضوء ما سبق أن يكون سلميا، ومما يؤسف له أنه قد تكون هناك مواجهة مع الجيش حيث لن يكون بمنأى باعتباره جزءا من النظام السياسي وشريك فيما جرى في البلاد منذ انطلاق ثورة 25 يناير حتى الآن. وقد يضربه التفكك وهو أمر خطير لا نحبه ولا نريده، فالجيش في النهاية هو الحامي لأي بلد ولو لا سمح الله تفكك ستنهار البلاد على رؤوس الجميع، لكن ليس الحل في توغل الجيش في امور الاقتصاد أكثر بل التخفيف عن كاهل الفقراء.. الخ. أما خوف أو تخويف الشعب المصري من المصير الليبي أو السوري أو اليمني فهو لم يعد يلق أذانا صاغية حيث لم يعد هناك من يتابع الشأن في هذه الدول أو يهمه أمرها، بل لم تعد أخبار القتل والذبح تلقى صدى لديه كما كانت الأمور سابقا، فالضغوط آتت على ما بقى من دماغ أغلب المصريين. لذا فإن الارتكان إلى أن الشعب لن يتحرك خطأ استراتيجي كبير لأن قشة قد تهلك البعير وتقتله، وهو ما لا يرجوه أحد.
ثامنا وجود فراغ في الشارع المصري يمكن لأي متابعة ومعايش أن يلمحه بسهولة ويسر، هذا الفراغ مؤهل بامتياز لاستقبال أي شيء من أي أحد، سلبا أو إيجابا، تنويريا أو ظلاميا، وللأسف هو متروك للقوى السلفية باعتبارها القوى الوحيدة بعد الإخوان المسلمين التي تستخدم الدين وتستثمره لأهداف غير دينية، وهذه القوى للأسف أشد ظلامية في تطرفها من الإخوان، فهي باختصار المقابل لداعش وجبهة النصرة، وإذا أتيحت لها الفرصة وملكت حرية أن تقول ما في صدرها أو تفعل ما تريد ستجتاح البلاد والعباد.&&
وكما كانت المؤشرات كثيرة فإن النتائج قد تكون أكثر، لذا على الدولة المصرية ونظامها الحاكم أن ينظر حوله يرى كيف تسير الأوضاع على أرض المحروسة، فمصر المحروسة ليست محافظات القاهرة والجيزة والاسكندرية بل هناك مع هذه المحافظات 25 محافظة أخرى وجميعها يعيش على شف حفرة من النار نار الفقر والقمع، وأن الأمور وصلت حد الخطر حقيقة، وأن المطلوب للانقاذ للأسف معروف ولا يحتاج لشرح وتوضيح، يعرفه الرئيس كما تعرفه أجهزته الأمنية والاستخباراتية، كما تعرفه الحكومة ووزراءها ومسئوليها، وأن استمرار الجميع في تجاهل تحقيقه "العيش والحرية والعدالة الاجتماعية" لن يجر إلا الكارثة تلو الآخرى.
&