في 11 آذار عام 1970 أعلن مجلس قيادة الثورة في بغداد بيانا يحل بموجبه النزاع المسلح الطويل بين الدولة العراقية والحركة الكردية المسلحة على أساس الحكم الذاتي! كان الوفد المفاوض عن الحزب الديمقراطي الكردستاني (البارتي) المتصدر زعامة الكرد يقيم في فندق بغداد الذي لا تنزله عادة سوى الوفود رفيعة المستوى! حينها كنت أعمل في جريدة الراصد، وقد أجريت في صالة هذا الفندق مقابلات وحوارات صحفية عديدة مع رئيس الوفد محمود عثمان ومع قياديين أكراد في مقدمتهم حبيب محمد كريم الفيلي سكرتير الحزب،وسامي عبد الرحمن وصالح اليوسفي رئيس تحرير جريدة التآخي، ونوري شاويس ودارا توفيق وغيرهم، وبعضهم كان يستعد لتسنم منصبه الوزاري في الدولة التي كان قبل أيام يوجه بندقيته إليها! وقد لقيت تلك الحوارات إقبالا واسعا من القراء فزادت إدارة الجريدة المطبوع أضعافا. كان إقبال الناس على ما يتسرب عن تطورات هذه القضية ينم عن لهفتهم وتطلعهم للوصول لحل جذري لها فهي قد التهمت الكثير من أبنائهم، وزهوة أعمارهم، كردا وعربا وتركمانا ومسيحيين!
ما ترسب في ذهني من تلك اللقاءات أن هؤلاء القياديين بقدر ما كانوا يبتسمون شاعرين أنهم يدخلون بغداد فاتحين، لكنهم كانوا أيضا واجمين بعض الشيء، يكتنفهم شعور بعدم الثقة بما اتفقوا عليه،وبمن اتفقوا معه،( وكما اتضح فيما بعد،يقابله لدى الطرف الآخر نفس الشعور مضاف إليه نوايا صدام المعروفة بما يبيت عادة لخصومه من شرور ومكائد،وهو يصافحهم ويعانقهم)، كانوا حذرين في كلامهم وتصريحاتهم يخشون الخروج على تعليمات قائدهم مصطفى البرزاني، حتى أن دارا توفيق كما أتذكر بعد أن استمع لأسئلتي ودونها طلب إمهاله يوما أو يومين ليجيب عليها، وقد جلبها بنفسه إلى مقر الجريدة في شارع الرشيد! كان هاجسهم المؤرق يتركز حول الرد المحبط الذي تلقوه من صدام عن كركوك حين أكد لهم أنها عراقية قديما ولاحقا،وهو وأي عراقي في موقعه لا يستطيع أن يفرط بها! لكنه فتح لهم مخرجا لكي يوقعوا الاتفاقية حين وعد بمناقشة وضعها بعد إجراء إحصاء عام لمعرفة نسب التباين السكاني، لذا كانوا يحسون بأن نصرهم جاء منقوصا!
كان مصطفى البرزاني يوجه وفده في بغداد من قرية "كلالة" المحصنة في أعلى الجبل كما لو بآلة سحرية، ومن الواضح أنهم كانوا يعكسون طريقته في إدارة الأمور بمزاج الفرد الواحد، كانوا حين يظهرون رضاهم في ما يتحقق بمرحلة معينة؛ ينظرون إلى أفق بعيد لا يكاد يرى وكأنهم يسابقون خيول حرب ضروس هم وحدهم يرونها، كان شعورهم أنهم في غزوة كبرى مستمرة، حين تنجح في مرحلة منها،تحفزهم لمواصلتها حتى شوط بعيد لا يعرف منتهاه! وهذه نزعة عشائرية قديمة ليست غريبة لدى شعوبنا الشرقية عموما، فزعيم القبيلة ما أن يعود من غزوة حتى يبدأ يخطط سرا وعلنا لغزوة أخرى أكبر، و"غزوة الضحى"، وما أدراك ما "غزوة الضحى"، هي الأكثر غنيمة ومجدا، وهكذا سياسة بقدر ما تحمل من حرص أو عزيمة تحمل الكثير من المخاطر، خاصة إذا أخذت نزعة جعل القوة تعني الحق، وكل ما استحوذ عليه قسرا صار ضمن الحق! وكثيرا ما يكون الناس الغافلون أو المستثارون هم ضحاياها ووقودها!
كان مصطفى البرزاني سليل عشيرته القادمة من تركيا محملا منذ صباه بأحلام استعادة أرض أسلافه وتصوراتهم عن امتداد أرضها وممالكها وما اعتقدوا أنها تعرضت له من مؤامرات وانتهاك من أعداء أتوا من الشرق والغرب، وحين يكثر الأعداء في المخيلة أو الواقع تكثر نزعات الشك والانتقام والميل لتفجير الدماء بدلا من تفجير الأفكار والبحث عن الحقيقة والعدل!
لم يكن البرزاني يستقى التاريخ من مصادره الدقيقة بل من التكايا والكتاتيب والعائلة القديمة فهو لا يريد الإقرار أن الأرض التي يقول أنها كلها هي أرض الكرد هي في معظمها خاصة سهولها ومدنها العريقة أرض عراقية عامة كانت قد استوطنتها قبل آلاف السنين حضارات ومجتمعات محددة معروفة من الآشوريين والكلدانيين أسلاف الكثير من العراقيين الذين تشرد أحفادهم اليوم في بقاع الدنيا لما وقع عليهم من ظلم واضطهاد، وإذا كانوا لم يطالبوا بها حتى اليوم فهي أمانة وطنية لدى العراقيين جميعا يعيشون فيها سواسية لا يجوز أن تطغى فئة فتستأثر بها وحدها!
لقد نزلها الكرد بين أوائل القرن التاسع عشر والعشرين قادمين إليها من عزلتهم الطويلة في أعالي الجبال، أو انحدروا إليها من سهوب تركيا ليجدوا من سكنها قبلهم بمئات السنين في تجمعات مدينية كبيرة من مسيحيين ويهود وتركمان!
وعلى الأغلب إن مصطفى البرزاني مات وهو لا يعرف أن اسم مدينة أربيل محرف عن آربيلو وتعني الآلهة الأربعة في لغة السومريين!
لكنه أحاط نفسه بمساعدين أو قياديين لا يعرفون سوى تبجيله وتقديسه لا محاورته وتبصيره بالحقائق، وقولة "نعم" هي إحدى صفات النظم الأبوية المطلقة!
الانطباع الآخر الذي تكون لدي من خلال تلك المقابلات ومن متابعتي لمجريات القضية الكردية أن متزعمي الكرد ما أن يحققوا مكسبا كبيرا حتى يضيعونه بمغامرة لا تقل تسرعا عن الغزوة التي حققته، وكأنه قدر برزاني أو قدر خاص بالزعامات
الكردية عموما! يمكن تلمس هذا في ذكريات جمهوريتهم في القفقاس ثم في جمهورية مهاباد في الأربعينات من القرن الماضي، ثم دولتهم سريعة الزوال في جبال من تركيا، ثم الوعد السياسي الجذري الذي انفتح لهم في بغداد عام 1958 !واتفاق آذار 1970 وحيثياته المعقدة، والذي بقدر ما أساء صدام إليه أساءت إليه ردود الأفعال الكردية المرتبطة دائما بشاه إيران وأمريكا وإسرائيل، وبما يمكن تسميتها بعقدة كركوك الكأداء! وأخيرا ما تحقق لهم في العراق بعد هزيمة صدام في حرب الكويت، ثم بعد سقوطه وحتى اليوم!
ولكي لا يظل المعنى غامضا وراء القدر يمكن الحديث في ذلك عن نزعة التوسع والطمع لدى الزعامة القومية الكردية وعدم التدبر في احتساب قدرات الذات وقدرات الآخر، وحقوق الذات وحقوق الآخر وأحيانا العيش في عالم من الأحلام والأوهام والمغريات، وتلك خصال مدمرة فظيعة دفع ثمنها قبلهم القوميون العرب وآذوا بها شعوبهم كثيرا، وما هزائم العرب اليوم وخساراتهم الفادحة سوى عقابيل تلك المغامرات الطائشة!
التطرف والتعصب في النزعة القومية وتثويرها دون اعتبار للظروف الموضوعية لا يعني الإخلاص للشعب دائما، فهو يكشف أيضا عن تهالك على السلطة والزعامة، وامتيازاتهما! فالكرد الذين ضحوا بأرواحهم أو الذين نزفوا دمائهم أسدل عليهم ستار النسيان! والكثير من البيشمركة الذين أصيبوا،والفلاحون الذين اقتسموا مع المقاتلين لقمة الخبز أيام الكفاح لم ينالوا اليوم ما يضمن لهم عيشا كريما، بل إن عوائل الشهداء على حافة الجوع والعوز،والمال والقصور والثروات الآن هي من نصيب أولئك المتزعمين وعوائلهم وقد طفحت أرصدتهم الهائلة في البنوك الأجنبية!
يفاخر بعض قادة الكرد ويهزأون اليوم أن دولتهم لم تولد من سايكس بيكو بل من الثورة ومن مخاض الدم وخرائطه وحروب الجبال متجاهلين أن الكيان السياسي الكردي والكيان العراقي (العرب والتركمان والمسيحيين) متداخل كثيرا، وكلاهما نزلا من رحم سايكس بيكو متلاصقين تماما كتوأمين سياميين!
والإنجليز والفرنسيون ليسوا براء من هذه المؤامرة أو الدسيسة! وهكذا خلق مشوه يعذب فيه الشقيق شقيقه حتى الموت،أو يستمر معه في حياة مريرة قاسية!
ما أن توج فيصل الأول ملكا على العراق عام 1921 حتى جلس الشيخ محمود الحفيد على كرسي كبير في بلدية السليمانية وأعلن نفسه ملكا على الكرد حيثما وجدوا معلنا الحرب على الدولة العراقية الوليدة، متجاهلا أن مصممي ومهندسي سايكس بيكو هم الإنجليز والفرنسيون وليس العراقيون! لكنه عدهم غزاة ومحتلين وغرس الأحقاد ضد دولتهم، كما غرس عقدة الشعور بالاضطهاد في نفوس الكرد متجاهلا أن الشعب العراقي وشعوب المنطقة كلها هم ضحايا تلك المعاهدة، ومعاهدة سيفر أيضا!
لكن الحفيد مضى في تمرد وحرب لأكثر من سنتين راح ضحيتها الكثير من الأبرياء على الجانبين انتهت بإلقاء القبض عليه من قبل الإنجليز ونفيه!
التعليقات