عنوان غريب بالتأكيد، إذ يفترض أن الفلسفة المادية لا تعترف بوجود خالق! ويبدو أنني سأكسر القاعدة وأضع الخالق إن لم يكن على حافتها ففي قلبها! ولنبدأ بأقدم اجتهادات العقل البشري لمعرفة الخالق والغاية من الخلق، والنظر، إذا ما كان ثمة جوانب مادية في هذه الأسطورة، التي يفترض أنها تقوم على فلسفة مثالية.
في ملحمة الخلق البابلية ( اينوماإيلش ) التي هي امتداد لأساطير الخلق السومرية، كان العالم فوضى تتمثل بغمر مائي، تتصارع فيه آلهة مائية. الإلهة تيامات الماء المالح، والإله ابسو( زوجها ) الماء العذب! وبعد صراع بين هذين الإلهين وآلهىة أخرى، يُقتل الإله ابسو.
تخوض تيامات صراعاً ضد الآلهة الآخرين، انتقاماً لمقتل زوجها، تنتصر فيها. غير أن حفيدها مردوخ الطامح في خلق كون، لم يجد غير جسد جدته ليخلق منه الكون،( وحسب تصوري أن هذا الفعل هو من باب تقديس الجدة وجعل وجودِها أبدياً) فيقوم بشق جسدها إلى نصفين، يجعل من النصف العلوي سماءً، ومن النصف السفلي أرضاً. (وبهذا يكون أوّلُ خلق كوني، قد تم بجسد إلهي أنثوي)
يقوم مردوخ بعد ذلك بنثر النجوم والكواكب على صفحة السماء ثم يشرع في خلق الإنسان.
ينحني نحو الأرض ويشرعُ بعجن التراب بدمه، ليخلق الإنسان الأول الذي ستأتي البشرية منه. ( وهذه ثاني عملية خلق يكون فيها جسد الخالق عنصرا أساسيا )
عملية الخلق هذه من أجساد آلهة، نجدها أيضا في ملاحم الخلق السومرية. في إحداها، يقوم الآلهة بذبح الإله (وي) لتقوم الإلهة نينتو بمزج دمه مع الصلصال ليكون للإنسان روح.
بتحليل النص البابلي نجد تداخلا بين فلسفة مثالية وفلسفة مادية. الجانب المثالي الأسطوري، يتمثل بالدرجة الأولى بوجود آلهة قامت بعملية الخلق، وفي الجانب المادي، سنجد أن الخلق لم يأت من عدم كما رُوّج لنا، وشاع فيما بعد، ليصبح عند كثيرين من الأمم حقيقة مطلقة. فعملية الخلق الأولى تمت من ماء مالح كان إلهة. وعملية خلق الإنسان تمت بإله مائي عجن الصلصال بدمه.
هذان الإلهان كانا من جسدين ماديين، وليس كما في العقائد السماوية اللاحقة، التي اعتمدت قصة الخلق من الماء، دون أن تقدم مفهوما لماهية الخالق، وجعلته سابقا على الخلق والوجود، وقدمت مفهوما مبهما له على أنه ليس كمثله شيء! حين سئل النبي محمد عن الله، أين كان قبل عملية الخلق، قال: ( كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ) مما يشير إلى أن الله كائن مادي أو طاقوي موجود في المادة، ولم يكن قبلها. ولا نعرف لماذا لم يأخذ الفكرالإسلامي بهذا الحديث، والآيات التي تنص على أن الخلق، قد جاء من الماء، وربما تم به أيضا، كما رأينا في ملحمة الخلق البابلية.
( لم يخرج عن الفكر السائد إلا العظيم ابن عربي، الذي لم يتطرق إطلاقا إلى وجود جاء من عدم، وأخذ بحديث النبي السالف الذكر وأعتبر أن الخالق أراد أن يظهر وجوده من العماء إلى العلن فتجلى في الوجود. لذلك اعتبر بعض المسلمين ابن عربي ملحدا. والحق أنه أعظم مفكر اسلامي على الإطلاق، ولو أن الإسلام انتهج مذهبه في وحدة الوجود لكان في حال أفضل من الحال التي هو عليها الآن. من المعروف أن ابن عربي لم يخرج بالمطلق أي انسان من دائرة الإيمان حتى لو عبد صنما أو ألحد )
من ناحية ثانية، يشير وجود خلق من آلهة مادية، أوجدت وجودا متكاثرا من نفسها، ليخدمها وليقوم بالعمل عنها، إلى وحدة وجود مادية، وإلى أن الوجود مكون من مادة وطاقة. ولو أننا أمعنا النظر في مادة هذا الغمر الذي جاء منه الخلق. لوجدنا عناصر الخلق الأربعة الأساسية: الماء والهواء والتراب والحرارة، وبكل ما تحويه هذه العناصر من مواد مختلفة، يأتي على رأسها الهيدروجين والأكسجين والكربون.
إن التداخل بين الفكر المثالي والفكر المادي سائد في حياة البشرية حتى يومنا، يتعايشان أحيانا ويتصارعان أحيانا أخرى حسب مستوى تحضر كل مجتمع في العالم. فالبشر في حياتهم اليومية يعملون ويتعاملون مع الآخرين، ويمارسون نشاطهم، وفق منهج مادي يستند إلى فلسفة مادية، تتعارض في بعض جوانبها مع الفلسفة المثالية، ويصلي بعضهم لخالق ما، وفق منهج مثالي، يستند إلى فلسفة مثالية، حتى وإن أصبحت هذه الصلاة، وظيفة روتينية تخلو من أي إحساس روحي، كما يجري في بعض المعتقدات التي تؤدى الصلاة فيها عدة مرات في اليوم. فتكرار الصلوات في اليوم، وأخذه المزيد من الوقت، أفرغ الصلاة من مضمونها وغايتها، وصارت تؤدى بأسرع وقت، ليعود الإنسان إلى عمله، أو إلى النوم الذي انتزع منه ليصلي الفجر!
في الآداب البشرية نجد هذا التداخل وحتى التصارع، بدءا من سفر أيوب التوراتي مرورا بفاوست غوته وانتهاء ببعض ما كتبه نيكوس كازنتزاكي، وما يحدث من وقائع في أدبنا
المعاصر.
لقد ولدت الفلسفة بكل تجلياتها ومفاهيمها من رحم الأسطورة وفلسفتها، في النظر إلى العالم، فهي مغامرة العقل الأولى كما يرى فراس سواح، ولا شك أن كل اجتهاد معرفي هو فلسفة، أو يستند إلى فلسفة. ويمكن القول إنه ليس هناك فلسفة مثالية بالمطلق، فكل فلسفة مثالية لا بد وأن تحوي مفاهيم مادية. فها هو الراحل حسين مروة، وهو باحث شيوعي رغم أنه خريج الأزهر، يؤلف كتابا ضخما في مجلدين، يطلق عليه " النزعات المادية في الفلسفة العربية الإسلامية "
لقد مرت الفلسفة المثالية منذ بداياتها،وولادتها من رحم الأساطير، بالكثير من اجتهادات العقل البشري، من طاليس ( اواخر القرن السابع وأوائل السادس ق.م ) مرورا بسقراط وأفلاطون وأرسطو.. وانتهاء بالفلسفة الماركسية في القرون الحديثة، التي جهدت لحسم
الأمر بين الفلسفة المثالية والفلسفة المادية. ورغم ذلك ما تزال الفلسفتان وبكل تفرعاتهما وامتداداتهما، قائمتين في المجتمعات البشرية حتى يومنا.
وبالإنتقال إلى رواية " أديب في الجنة " يمكن القول إنّ ما أتيت به، ليس جديدا بالمطلق على الفكر البشري، وكل ما فعلتُه، أنني حاولت انزالَ الله، من السماء إلى الأرض، ومن متون الأسطاير، إلى متون الفيزياء إذا جاز التعبير، دون أن ألغيَ وجوده المطلق، حين جعلت منه طاقة سارية في الخلق ومتجلية فيه، عبر منهج أقرب إلى المنطق والعلم منه إلى المثالية، مبعدا عنه كل المفاهيم الغيبية والنزعات الشرانية، موحّدا وجوده في الوجود كله، بأن جعلتَه الواحدَ في الكل، والكلّ يتحد به. لذلك قلت في بعض أقوالي الكثيرة " ابحث عن الخالق في قلبك، فإن لم تعثرعليه لن تعثر عليه على الإطلاق " ورأيت أن غايته من الخلق هي بناءُ الحضارة الإنسانية، بتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال، وأن عملية الخلق بحد ذاتها تكاملية بين الخالق والمخلوق. الخالق الذي يسري بطاقته في كل مخلوق، ويتمظهر فيه، والمخلوق الذي هو جزء من ذات الخالق.
ويمكن القول أنني قدمت مفهوما واضحا للخالق، غيرْ ملتبس، وغير مبهم، ووضعته ليس على حافة الفكر الفلسفي المادي فحسب، بل في قلبه أيضا! دون أن أجرّده من ألوهيته!
* (تمت قراءته كدفاع عن روايتي " أديب في الجنة " في أمسية اشهارها في رابطة الكتاب الأردنيين).
التعليقات