"آه يا محكمة العدل الغبية
حققي ما دمتُ مصلوباً على باب المدينة أمنياتي الذهبية
وانشري العدل، فإن العدل أمسى في بلادي بندقية"
الشاعر مناضل نعمة*
ما جرى بحق تطلعات شعب الإقليم من رفضٍ غربي أولاً وإقليمي ضمناً في محاولةٍ منهم لمنع إجراء أي تغييرٍ جوهري للوضع في ذلك الجزء من العالم، بالرغم من كل الوسائل الحضارية التي لجأ إليها شعب الإقليم وحكومته، كشف عورة الغرب الديمقراطي الذي لا ينظر إلى الآن للدول الشرقية إلاّ كمزارع تضم شعوباً لا يطبّق بحق الموجودين فيها إلاّ ما كان يطبقه المستعمر الغربي منذ قرنٍ من الزمان في نفس البقعة الجغرافية، وأن قيَم الديمقراطية والحرية والعدالة هي فقط ملك يمين واجديها، ولا تطبّق من مضامينها شيء على شعوب المستعمرات الاقتصادية للدول الغربية، إذ أن المفاهيم التي يتبجح الغرب الديمقراطي بتبنيها ليل نهار، والتلويح بها كواحدة من مفاخرهم بوجه شعوب العالم الثالث التي ترزح تحت نير منظوماتٍ لا تماثل عقول حكّامها إلاّ عقلية القرون الوسطى، إذ تقتضي مصالح المتاجرين بتلك المفاهيم بقاءَ حال أنظمة آسيا وأفريقيا على ما هو عليه لدوام نهب خيرات شعوبها، كما يُفهم من خلال عدم سماح الغرب قبل الدول الإقليمية بإحداث أي زحزحة في الخارطة السيااقتصادية في المنطقة أن الهدف منه إدامة عمر الأنظمة إلى حين، وحتى يستمر مسلسل استثمار ثروات المنطقة وابتزاز حكامها إلى أجلٍ غير مسمى.
فمن جهة يقوم الغرب السياسي بتخويف شعوب الشرق بحكامها لكي تنصاع الشعوب لأوامر الأنظمة، ومن جهةٍ أخرى تخوّف الحكام بالشعوب بجزرةٍ اسمها الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وذلك ليس حباً بالشعوب، ولا حباً بخاقانات الأنظمة، إنما ليبقى الغرب يبتز عبر تلك المفاهيم حكّام اَسيا وأفريقيا لينال بذلك ما يريده من الموارد إلى أمدٍ غير منظور من خلال إبقاء الطغاة مقابل ضمان عدم تأليب الشعوب عليهم.
وفي الحالتين تفعل الدول الغربية وعلى رأسها واشنطن بشعوب أسيا وأفريقيا، كما يفعل المقامر الأمريكي باللاعبين في حلبات المصارعة الحرة، وهي الثقافة التي ورثها الأمريكان عن الرومان، إذ قديماً وفي عهد أباطرة الرومان كان على حرّين أن يقتل أحدهما الآخر لينال أحدهم حريته على حساب نحر قرينه، فيُطلب منهما أن يقتلا بعضهما بعضاً فدوى لرغبات المتفرجين، حيث كان على المعتقل أن يُنهي حياة معتقلٍ مثله ليس لإيمان المقامر بالحرية، إنما ليبلغ النشوة وهو يستمتع بذلك المشهد الدموي؛ وهذا عملياً ما يفعله الغرب السياسي بالكثير من دول آسيا وأفريقيا، فهو يحرض طرفاً ضد طرف ليس إيمانا بإحقاق الحق، ولا من باب إنصاف ملل تلك الدول، أو إقامة العدل بين أبنائها، إنما لاستنزاف طاقات الطرفين، وليستفيد من المقامرة برؤوسهم ويستمتع بالمشهد الدموي ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
وللتذكير فقط حيث تقول المرويات بأن أباطرة الرومان كانوا يدفعون بالسجناء إلى "الكولوسيوم"* التي يقال لها حلبة المصارعة الرومانية، أو حلبة الموت الرومانية التي قُتل فيها آلاف البشر، حيث كانوا يُدخلون إليها السجناء ليواجهوا الردى بصدورهم العارية وأجسادهم الهزيلة، فيُقتل المبارزون إما بسيوف أصدقائهم الذين أجبروا على مقاتلتهم رغماً عنهم، أو يواجهون أنياب الحيوانات المفترسة التي كان يطلقها رجال الإمبراطور كنوع من أنواع العقاب من جهة، وليبلغ الامبراطور وحاشيته ومحظياته منتهى اللذة والاستمتاع من جهةٍ أخرى، وهم يتابعون بحماسٍ منقطع النظير وقائع المباراة الدموية التي تجري أمامهم بين السجناء، وذلك وسط صرخات وهتافات جماهير منقادة لا حول لها ولا قوة وهي تحض اللاعبين على إزهاق أرواح بعضهم بعضا، إذ أن تلك الثقافة الرومانية القاتلة وتلك الأجواء الدموية عاشها ساسة الغرب مؤخراً مرةً أخرى وهم يستمتعون بالمسلسلات الدموية لتنظيم داعش ليس داخل الكولوسيوم هذه المرة، إنما على مستوى مساحة عدة دولٍ في منطقة الشرق الأوسط امتداداً من ليبيا إلى العراق وسوريا، وذلك قبل أن يأذن الغرب والأنظمة الاقليمية بأفول نجم دولة داعش التي كانت أقرب إلى الاسطورة من الحقيقة.
وما قيل عن زمن الكولوسيوم هو عين ما يقدم عليه اليوم ذلك الغرب الحضاري، وفي مقدمتهم وريثة الامبراطورية الرومانية من جهة القوة والقسوة صاحبة تمثال الحرية (أمريكا)، وذلك في الكثير من المناطق الساخنة في آسيا وافريقيا ولعدة غايات، منها؛ أولاً لإدامة عمر الأنظمة الحالية على جورها وعلى ما فيها من العلل، وذلك حتى يدوم عمر الفائدة المرجوة من وراء إدامتها، وثانياً لاستنزاف طاقات الشعوب من خلال دعم الحكام والشعوب معاً بحيث يبقى الطرفين نصف مقتولين أو نصف أحياء، لكي لا يغلب طرف بينهم على طرفٍ آخر، ولكي لا تنتهي اللعبة التي يجنون منها كل ما من شأنه أن يزيد من ثرائهم، وبالتالي إسعاد شعوبهم على حساب معاناة وآلام شعوب آسيا وافريقيا؛ ولتحقيق التوازن المحمود من قبلهم يضعون جل جهودهم لئلا يحصل أي تغيير جذري في موازين القوى المتحاربة بالوكالة حتى لا تؤثر المنازعات على مسار لعبتهم الاقتصادية الثابتة، وثالثاً ربما كان الهدف البعيد هو تحقيق التوازن السكاني على مستوى الكرة الأرضية تنفيذاً لما جاد به مالتوس من خلال أفكاره ونظريته الاقتصادية المتعلقة بالتكاثر السكاني، ورابعاً لإشغال شعوب وملل الدول الغربية بما يجري في الدول النامية، والإيحاء إليهم بطريقةٍ ذكية بأن مصيرهم سيكون كمصير هؤلاء المنهكين جوعاً واقتتالا إن تمادوا في المطالب.
وبناءً على العنوان ومن ثم المدوّن أعلاه، فمن المؤكد أن ما نرمي إليه لا يتعلق بالموقف النبيل لحكومة الإقليم من الثورة السورية وإيوائها لمئات الآلاف من اللاجئين من غير أن تتاجر بهم كما هو حال أغلب الدول المجاورة التي آوت السوريين وابتزت الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بذريعة مساعدة اللاجئين، إنما الأمر متعلّق بالتواطؤ الإقليمي والغربي على الإقليم، وسرعة تخلي الغرب عن كل مفاهيم حقوق الإنسان وقيم الحرية والديمقراطية والتضحية بـ: 4 مليون إنسان مقابل استمرار مصالحهم مع الأنظمة الفاسدة والجائرة بحق شعوبها، إنما قلنا ذلك انطلاقا من كلام مسعود البارزاني لوفد المجلس الوطني السوري أوائل عام 2012 في قوله بما معناه أن الغرب عموماً بما فيهم أمريكا لن يساعدكم مهما قدمتم لهم من الأدلة والوثائق والقرائن على انتهاكات النظام وإجرامه، وأنكم إن لم تقدروا على أن تكونوا البديل عن النظام في تحقيق مآرب الغرب، أو تكونوا في وضعية القادر على الإضرار بمصالح الغرب فانسوا مساعدتهم لقضيتكم العادلة*.
إذن فمن خلال هذه المعادلة الغربية القائمة فقط على تفضيل المصالح كحال أي سمسارٍ استغلالي من عامة البشر، ومن خلال هذه الآلية الخالية من أي فكر إنساني نبيل والتي يتعامل الغرب السياسي من خلالها مع دول وقضايا المنطقة، نقول طالما أن ثوار سوريا غير قادرين على تحقيق مصالح الغرب كما هو حال النظام الذي فلح ويفلح في ذلك إلى الآن، وطالما هم غير قادرين على الإضرار بمصالح الغرب، فمتوقّع جداً مع استمرار تلك المعادلة أن يعود السوريون إلى مربعهم الأول في 2011، وذلك وفق المسار التدريجي للتنازلات عبر المؤتمرات التي يرعاها الغرب بخصوص سوريا، ومع دوام هذه الحالة فليس للثوار السوريين في النهاية وسط نُظم إقليمية مخادعة، وعالمٍ غربي متاجر، ونظامٍ قاتل، إلاَّ التعويل على البندقية التي قد تعيد إليهم ولو شيئاً قليلاً من الكرامة التي هدرها ويهدرها جلاوزة الطاغية منذ عقود، وعن أهمية البندقية ودورها الفعّال، فبدون أدنى شك لولا سلاح البيشمركة وشهامتهم لأهانَ حكاّم بغداد كل كرد إقليم كردستان كما فعل قبلهم البعث الفاشي، وفي سورية نتصوّر أنه بدون البندقية الثورية، فقد تتلاشى مع الوقت تدريجياً وبكل سهولة جُلّ ملامح الثورة الأبيّة.
ــــــــــــــــ
* أنطولوجيا الشعراء العراقيين الذين قتلهم صدام وحزب البعث/ حيدر الكعبي.
* كولوسيوم: ويكيبيديا، الموسوعة الحرة.
* صحيفة الحياة، عبدالباسط سيدا 1/ 11/ 2017 (مسعود بارزاني تاريخ حافل وقيادة متميّزة).
- آخر تحديث :
التعليقات