طوال قرون حملت "اعمدة الحكمة السبعة" باستعارة عنوان كتاب ت. أ. لورنس، سقف الهوية العراقية. لكنها، شأن اشياء كثيرة في بلاد الرافدين التي كتبت آدابها على الطين وبنت بيوتها و زقوراتها منه، أعمدة عريقة، لها رفعتها في الذاكرة الأنسانية، لكنها هشة امام الزمن و الطبيعة القاسية وعنف التاريخ.الطين المفخور والنيئ منه يستحيل غبارا يعود الى ارضه وتبقى منه الأحداث والملاحم والأساطير ترويها الأجيال وتسحر خيال منقبي الآثار. التاريخ العراقي، رواية استمدت منه الواقعية السحرية فنتازيتها المأساوية في آلاف اعوام من العزلة؟نعم، فتاريخ العراق مازال نصفه مطمورا في غرين جنوبه وكهوف جبال شماله وصحراء الكبريت في غربه وتحت خضرة اشجار برتقاله و هضابه في شرقه. عاشت الهوية العراقية على صدى حكايات واساطير بلاد في بلبلة السن وافكار كانت بابل القديمة والأخرى، بنت اليوم رمزا حقيقيا لها.
بالأساطير والأديان والمذاهب واللغات والطقوس والقبائل وعنف الثورات" أعمدة العراق السبعة " تكونت الهوية العراقية قبل وبعد ظهور المملكة العراقية. كانت مهمة الملك الحجازي تنظيم هذه الأعمدة، غير المرئية، وجمعها في كيان مادي، مرئي، ليورث لأبنه غازي دولة – امة على غرار ممالك امم أخرى، اقربها مصر محمد علي باشا الكبير وابعدها المملكة المتحدة وريثه هبسبورغ. لم يكن سهلا لخيالة فوج موسى الكاظم، اول فوج في الجيش العراقي المؤسس حديثا، الخوض في غرين الجنوب المغمور بطوفان انهاره منذ القدم ولا صعود جبال شماله التي بنى منها الآشورين حصن شيروكين و اسوار آشور وثيرانها المجنحة الحارسة من الأعداء وتعاويذهم السحرية.تمردات تتلوا بعضها، شمالا وجنوبا، اعنة خيولها اعمدة حكمتها القديمة من اساطير واديان ومذاهب ولغا ت وطقوس وقبائل وعنف.
لكن صبر الممالك اقوى من صبر الجمهوريات ونفسها اطول. في عقود اقيمت هياكل مملكة، نصفها فساد هو رديف الممالك في كل مكان، بمفردة لشكسبير ونصفها الآخر هيبة لهوية جامعة.بنيت المدارس ودور الصحة وثكنات الجيش في كل مكان تصلح فيه الأدارة، لا على تعيين محكوم بديانة وطائفة وقومية، رغم ان بغداد، واجهة المملكة اخذت حصة اسد، بحثا عن اعادة بريق قديم لها، فقد كانت يوما عاصمة العالم.
لن يجرأ ثوري او اصلاحي او انقلابي عراقي على القول انه لم يتعلم في مدارس المملكة العراقية ليتقن فيما بعد افكار ثوريته او اصلاحياته او انقلابيته، ابتداءا من عبد الكريم قاسم وضباطه الأحرار وعزيز محمد وحزبه الشيوعي وفؤاد الركابي وحزبه البعثي وجلال الطالباني واتحاده الديمقراطي الكردستاني بل وصدام وشهادته الجامعية في القانون من جامعة بغدادية اسستها المملكة؟ لن يناقش ذلك على الوردي الشيعي ولا مصطفى جواد التركماني ولا عبد العزيز الدوري السني ولا كمال مظهر الكردي ولا عبد الجبار عبد الله الصابئي ولا بهنام يوسف المسيحي.. كلهم غنوا في طفولتهم: فيصل مليكي وافدي له روحي؟
في هذا الخضم الصعب كانت المملكة تحاول صنع بلاد من أمة عراقية، كأنها تجمع اشلاء جسد تناثرت، وان بقيت مترابطة بشعيراتها الدموية فبقي الجسد حي على قيد نهرين، هما من يرسم خارطة البلاد. بين ترسيم حدود غير التاريخ الطويل مواقع اوتادها بين الخليج وجبال آرارات، وبين خطط أصلاح للزراعة وبدء للتعليم الحديث وللطب وللقانون كانت الهوية المادية للعراقيين تتجمع في بؤرة بلاد –أمة، لها متحفها الموحد في قلب بغداد.في هذا المتحف وجد الجميع اصولهم على هيئة لقى وتماثيل واختام وبقايا عظمية من اور في الجنوب حتى كهف شنايدر في شمال البلاد. هياكل عظمية عريقة القدم لكنها تشبه احفادها الماشين على ارصفة المدن الجديدة. هكذا توحدت الهوية حينما وجد كل فرع لها " جامخانته " في اروقة المتحف العراقي.وحين اتسعت شواهد الهوية بما كان ينبثق من الأرض العراقية، وضاقت البناية العثمانية القديمة في الرصافة بمحتوياته، قررت المملكة العراقية تشييد متحف كبير،معلم شاهد، في اعرق مكان من كرخ العاصمة العباسية القديمة. في هذه الرقعة من بغداد لم يكن هناك من فضل لمسلم على مسيحي ولا لعربي على كردي ولا لتركماني على آشوري.فنبض " العراقية " واحد في قلوب الجميع.
حين اندلعت ثورة 14 تموز كانت الهوية العراقية الموحدة في اوجها وان لم تكتمل.ما ارادته الجمهورية المنبثقة توا هو القضاء على النصف الفاسد، النقرس الذي يعصف بالممالك دائما.لكن لحظة افتتاح المتحف الجديد، الذي كان صرحا للحضارة والهوية الجامعة، في العهد الجمهوري الأول كانت ايضا لحظة تشظي الهوية من جديد، في صراعات طبقية، اثنية، طائفية، مصهورة في بوتقة سياسية عادت بمآسيها، سنة بعد أخرى، الى عصر ماقبل الهوية.
الهوية العراقية المعقدة، شأن الهويات الفرنسية والأسبانية والأيطالية، التي هي الأخرى، بطبقات اثنية ولغوية ومذهبية متعددة. لكن سنوات حكم حزب البعث العربي الأشتراكي لم تستطع فهمها بسبب سطحيتها القومية.اذا كان دستور الجمهورية الأولى قد حاول جمع الهويات في فكرة الوطن الواحد المتعدد الشراكات فأن ما تلاه من تطبيقات كانت تمزيقا له بالسيف العربي والخنجر الكردي اللذين كانا يتوسطان شعار الجمهورية العراقية الأول.الأحزاب القومية العربية بنظرتها الأحادية لمفهوم الأمة كرست القوة البسماركية لجمع الهوية في قرن ليس له من بسمارك، والأحزاب القومية الكردية كرست مفهوم اللاهوية العراقية. بالقدر الذي كان يمضي فيه شعار " امة عربية واحدة " على نحو مأساوي في حروب ومذابح وخصومات وحماس قومي، كان شعار دولة كردية ينمو بأطروحات غير واقعية بأعتبار ان العراق كيان جديد وهو ليس الا ثمرة من شجرة اتفاق سايكس بيكو. هكذا كان البعث يدفع التاريخ العربي الى اقصاه، معربا الحضارات السومرية والسامية، وكان النهج الكردي يتمادى بأن العرب غزاة طارئون وابتدأ بعض مثقفيهم، اسوة بعرب، التأكيد على قدم غير مبرر تاريخيا على ارض شهدت مرور جميع فاتحي الأرض؟
انتهى المكان في نظر البعض، من الطرفين خصوصا، كمكان جامع، حميمي لكل من سكنه من اجل فكرة ارث تاريخي، اشبه بملكية خاصة تتوارث؟ شهدت سنوات تفرد صدام حسين بكل امور البلاد انهيارا كاملا لفكرة الهوية الجامعة بعد ان استعدى الجميع وفتت هيبة الدولة كمجموع من اجل فرد معبود. حينها صار وطن الشيعي ارض مقدساته المذهبية المحطمة والكردي جباله المحروقة والمسيحي كنائسه الشرقية الأقدم في تاريخ المسيحية والتركماني مجد امبراطورية آل عثمان التي حاصرت فينا والصابئي طقوس الماء و لغته الآرامية. هكذا تشظ في تشظ في لعبة مرايا مكسرة الف قطعة، قطعة تحاول طرد قطعة لتحل محلها وريثة للمرآة الأولى.
حينما نهب المتحف العراقي وضاعت آثاره بين تجار التحف والدهماء فقد كان هذا الحدث المأساوي الكبير في تاريخ الدولة العراقية الحديثة، هو ضياع لكل ماهو مادي وشاهد على هذه الهوية المعقدة، المتشظية في المكان والمتحدة في التاريخ. نهب المتحف العراقي له قوة وصدى اتفاق سايكس –بيكو. فأذا كان ذلك الأتفاق قد قسم دولا فأن نهب المتحف، رمزيا، انهى دولة موحدة. فمنذاك صار كل جزء من العراق يريد دولة له رغم انف التاريخ والمناطيق الجغرافية والأقتصادية والثروات المائية والنفطية والتاريخ، الذي من المستحيل تغييره؟
من جديد وقرون الى الوراء عادت مفردات الحكمة السبعة: اساطير واديان ومذاهب ولغات وطقوس وقبائل وعنف. لكن هذه المرة بأعمدة من رمل لن ترفع سقفا اسمه الهوية العراقية.
الأمل: العراق قديم. فقلت لها اين ارض العراق؟ فقالت ونحن بتربانها. المتنبي العراقي.
- آخر تحديث :
التعليقات