سلبٌ سحري يختطف منا ما يجب أن نقوله أو أن نفعله أمامقباحة العنف الذي يفتك بكل شيء. لا أسئلة تطال من يصنعومن يروج له. نحن عاديون أمام المواضيع التي تجبل الحكايةالحديثة للإنسان. اختفاء غامض لأثر الإنسان في الإنسان. والمبادئ التي من خلالها يتأنس الإنسان ـ التصعيد بالمعنىالفرويدي ـ كأنها محض أكاذيب. ثمة إضافة نوعية إلى عاديةالشر الذي سكّته هانا آرندت في شخصية آيختمان. الضحاياأيضاً على استعداد تام لأن يندمجوا في التفاهة التي يتطلبهاالشر ليعمل من خلالهم ضد بعضهم. ثمة سكوت على القضاياالتي تدمر ماهيتنا في العمق. سلوكيات قذرة تخفيها المحاكمفي ملفات مكتومة. والمشرفون على تدبر أمور الضحايا فيالملاجئ/معسكرات الحجر الحدثية، يسرفون في ابتزازوانتهاك كرامة الناس من خلال القوانين التي تضعهم فيمكانة المشرف على شؤون المهاجرين. القوانين تمأسس العنف. والتفكير في العدالة بناءً على حقوق الإنسان لا يجدي نفعاً. فالإعلان العالمي لهذه الحقوق في التطبيق يناقض الجهد الذيبذله وزير التربية الفرنسي، رينيه كاسين، لتعديل الإعلانبتغيير كلمة الدولي إلى عالمي، لئلا تحرم الشعوب التي ليستلها دولة من هذه الحقوق. غير أن التاريخ يخبرنا أن الإعلانظل دولياً وأوربياً وكولونيالياً.

يجب هتك المنهجية التي تعمل على دفع الضحايا إلى تبنيعنف السلطة واستخدامه بالنيابة عنها ضد بعضهم. ثمةتسهيل لسلوك العنف بين الضحايا وإكراه على سبيله. إعدادهم لأن يستحقوا الحجر والدونية والطرد. لا تختلف أورباعن لبنان أو تركيا في شيء. المشروع ذاته يحدث بأدواتمتنوعة ليس أكثر.

بدأ الإحراج الأخلاقي المرتبط بالعنف مع تجارب ستانليميلغرام (1963) الذي نشر مقالاً بعنوان «دراسة سلوكيةللطاعة» بعد تجاربه المعروفة بـ «اختبار ميلغرام»، والتياختبر فيها إمكانية أن يقوم أشخاص أسوياء بأمور لاأخلاقية،دون أن يربط ذلك بنزوع سادي. كمحاولة منه في فهم الأسسالاجتماعية الخفية التي يمكنها أن تنتج «آيختمان» في كلشخص سوي وتجعله مستعداً للقيام بالشر دون رادع قيمي. الجدل الذي أحدثه ميلغرام أثمر مشروعاً مكملاً لتصوره حولالشر في التجارب التي قام بها فيليب زيمباردو المعروفةباختبار سجن ستانفورد (1971). والتي جردت الأشخاص منوجود سلطة خارجية تأمره بالقيام بالعنف. حرية الشر كانتكاملة، والتجارب توقفت لأسباب كانت لها علاقة بالمغالاة فيابتكار سبل التعذيب بين المتطوعين. وجاءت خلاصتها وفقاًلزيمباردو وميلغرام لتؤكد أن فساد التنظيم الاجتماعي يؤديإلى استيقاظ الوحشية في كل فرد يخضع لظروف غير روتينية. ما الذي يختبر المبدأ الأخلاقي إذن إن كانت أفعالنا مجردة منالمسؤولية بذريعة الحرب؟

ثمة نماذج تفسيرية متعددة تتنازع لفهم فداحة العنف الذييهندس المدى الإجرامي الذي بلغته القوى التقليدية السياسيةوالدينية في واقعنا المعاصر. لا أرجحية لنموذج تفسيري علىآخر. كلها محاولات تكيفية للتورية أو للهتك. القوى التقليديةوفقاً لنيتشه تستهلك مقولتي الله والشعب لتكريس الذات. ومامن قضية حقيقية تتبناها هذه القوى وتتفق مع الكوجيتوالثوري الذي قدمه آلبير كامو لجعل الفعل الشخصي حاملاًللخير العام، والمتمثل في «أنا أتمرد إذن نحن موجودون». لأنهيؤسس شرعية العنف على المبدأ الأخلاقي، وهو ما لا تفهمه ولاتريده جميع القوى التقليدية التي حوَّلت مجتمعاتنا إلى قرابينومهاجرين.

يعتقد كامو أن عقيدة الموت ظهرت بعد الحرب العالمية الثانيةكنتيجة لهستيريا العسكرة التي دمرت أوربا. مشيراً إلى شعار«يحيى الموت» الذي ارتبط بصيحة لجندي في كتائب فرانكوالتي كانت تعتقد أنها ستقيم حكم الملك المسيح. إلا أن التحليليعيد هذا الشعار إلى الثورة الفرنسية والتمجيد الذي رافقهاللعنف الممتدح بالمبادئ الرحيمة. ممهدة السبيل لتعميقالتناقض في مواقف دعاة التنوير الذين لم يجدوا حرجاً في«ضرب الناس لمصلحتهم» وفقاً لصيغة بودلير. ربما لذلك تأتيبعض المقاربات لتقارن بين الظروف التي وجدت آناء وبعدالحرب العالمية الثانية والمجتمعات التي دمرها الربيع العربي. يستعيد مثلاً عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان فكرةخلو العرش التي طرحها غرامشي في سياق التاريخ الأوربيحصراً. والتي تعني انتهاء النظام القديم بأفكاره وعدم ظهورأفكار جديدة. لتقييم قضيتين: أولاً العمى الأخلاقي الذي تبوبهأوربا أمام المهاجرين إليها. وثانياً حالة العنف الذي يجعلالمجتمعات التي ابتليت بأنظمة فاسدة وربيع مدمر تلتهم حرفياًذاتها.

يؤسَس العنف ويتمأسس في النسيج المجتمعي على عدةخطوط. شرخ مجتمعي حدي يعزل هذا عن ذاك بناءً على أوهامكرَّسها الدم وبجلها. هجرة تراجيدية تحول اليأس إلى هوية. ونسيان فادح للمجتمعات المتبقية تحت رحمة المليشيات وبنادقصبيانها الجهلة.

ما الذي يحتاجه المجتمع ليجعل من الشر عقيدة له؟ زيفأخلاقي حاد يدعي إنتاج مجتمع متجانس وفقاً لتصورنرجسي لقائد ما. وقائد يمارس دور الإله. وجماهير جاهلةوجاهزة لتمارس دورها الوظيفي في أن تكون أضاحيعقائدية.

بناءً عليه فإن العنف الافتراسي الذي يدمر مجتمعاتنا ليؤسسمن حطامها فردوساً مفقوداً وباطلاً في آن، لا يمكنه أن يقارنبما كان حدث في المجتمع الأوربي آناء الحرب. تلك المعرفة لاتخبرنا كيف يحدث ما يحدث الآن. ثمة إضافات جديدة للشر. ثمة إضافات مسكوت عنها رغم فجاجتها.