"مشكلتنا الآن هي نفس مشكلتنا القديمه، أن قوة الإنسان سبقت يقظة ضميره، ونمو عضلاته جاء قبل نمو تفكيره " ألبرت إينشتاين
مقولة أنّ هذا الشرق هو أرض الأديان ومهد الرسالات السماوية الثلاث مُتّفق عليها بالإجماع، ولا يَخفى على كل مراقب أو مُهتم مدى هيمنة عنصر الدين على تركيبة الشرقيّين، وعلى النوازع المُحرّكة لسلوكهم وعاداتهم،ويتبدّى هذا حتى في منطوق كلامهم القائمةِ ركيزته على ألفاظ الجلاله، ويذهب أهل الشرائع على إختلافهم إلى إعتبار الشرق أرض قداسة.
لكن، هل ظلّ مكان لطُهرانيّة منزّهة أو لسموّ روح في أرض إنشطر أهلها بين قديسِين وشياطين، وقديسو هذه الفئة هم شياطين تلك، هل سلِمت بقعة في هذه الأوطان المُمزقة من لهيب الحرائق والحروب والفتن والأهوال؟
قديماً، كان الصراع فِطرياً ولأسباب غرائزية، وقد تطورت مع التجارب أسباب الصراعات وأهدافها فأصبحت تُوظف للمحافظة على بقاء عقيدة ما، وبوجود كَمّ هائل من العقائد المتجذرة في النفوس، والمتباعدة بين الجماعات إلى حد التناقض في هذه المنطقة من العالم، وَجد الصراع أرضاً خصبة له ينمو فيها ويترعرع ويتناسل ويتوارث من جيل إلى جيل.
في ذروة الحرب الأهلية اللبنانية عام 1980 وقف الرئيس الأسبق بشير الجميّل أمام مناصريه وقال مُعبّراً عن الوجدان المسيحي: "نحن الثابتون في لبنان والشرق، غيرنا يأتي حينًا ويذهب حينًا آخر، صحيح ان امتداد وجودنا ليس مستقرًا جغرافيًا، لكن وجودنا في حد ذاته دائم الاستقرار، نحن قديسو هذا الشرق وشياطينه، نحن صليبه وحربته، نحن نوره وناره، قادرون على إحراقه إن أحرقوا أصابعنا، وقادرون على إنارته إن تركونا على حريتنا، فحذار من أي حل لقضية لبنان وأزمة المنطقة لا يأخذ بعين الاعتبار ثوابت تاريخ المنطقة وإفرازات حرب لبنان".
مثّل هذا الكلام الشهير لزعيم لبناني مسيحي هو مختصر أنموذج واضح لما يراه كل طرف في نفسه، بشير كما يُناديه مُحبّوه كان أنذاك قائد ميليشيا القوات اللبنانية قبل أن يُنتخب رئيساً للجمهورية، وقتها كان لبنان يعج بالميليشيات والأحزاب، وكل ميليشيا _ لحماية وجود جماعتها _ كانت تغزو الأخرى وتخطف وتقتل وتنكل بالناس وتذبح على الهويّة على أساس ديني ومذهبي، كل هذا كان يتم تحت طابع القداسة والتضحية بالذات من أجل الوجود والعقيدة، نُسخٌ من هذه الصراعات وإن بدوائر أوسع إنتقلت فيما بعد إلى العراق وسوريا واليمن وساحات صراع أخرى على إمتداد جغرافيا المنطقة.
إذا كان الإرهاب هو في قتل المدنيين وعدم الإعتراف بالآخر، فمعظم _إن لم يكن كل الميليشيات الناشطه في الساحات_ إرهابيّة بإمتياز،والتمييز فيما بينها بناءاً على هويتها الدينية أو العرقية يأتي في سياق الإستثمار السياسي ولا يبدّل من حقائق الفعل شيء.
"الشيطنة" و"القداسة" في حالات النزاع ليست إلا أسلحة تعبويّة تعتمد التعميم المُطلق مفتقرةً للإتزان والعقلانية، تُستخدم للحشد وشد عصب مناصري التنظيمات وبث الروح المعنوية رغم ما قد يشوب هذا الإستخدام من مبالغات وتزييف للوقائع وتبييض للصحائف، وفي كل حال تعبّر عن مأزق عميق وهو حاجة أطراف الصراع إلى غطاء أخلاقي قِيَمي لتُغطية وتبرير أفعالهم الدموية.
التناقض الأساس اليوم هو في ثنائية (سنة – شيعة)، حتى مسميات الميليشيات المتناحرة في لبنان وسوريا والعراق واليمن ودول أخرى عزفت على هذا الوتر مستغلّة التناقضات لإستدرار المخزون الديني أو العرقي والقومي وتجييش المشاعر والعصبيات وغير ذلك، وما (داعش – جيش الإسلام – فتح الشام – ألوية أحفاد الرسول – لواء التوحيد – ألوية الفاروق – عصائب أهل الحق – حركة النجباء – فيلق القدس – حزب الله – لواء فاطميون – لواء أبو الفضل العباس – منظمة بدر – أنصار الله، وغيرهم) إلاّ عينة من أسماء التنظيمات والمليشيات التي تسفك الدماء بإسم القداسة.
خاضت أوروبا صراعات إستمرت لمئات الأعوام خرجت على إثرها من الأنظمة الثيوقراطية وهيمنة الكنيسة إلى مجتمعات متعددة تحكمها مباديء المساواة والحرية والعدالة الإجتماعية، وكانت قد شهدت حروب طويلة بين البروتستانت والكاثوليك إبتداءاً من 1648، أدّت إلى إنتشار المجاعات والأمراض وموت 30 % من إجمالي سكانها، فيما _ إستطراداً _ ويا للغرابه! تخوض معظم الميليشيات في المنطقة العربية حروبها من أجل " عودة " الحكم الديني!
اليوم، يعيش الغرب فعل قيامة ومظاهر "قداسة" من نوع مختلف، قداسة لكرامة الإنسان في العيش الكريم مُستظلاً بدولة تساوي في الحقوق والواجبات بين سائر مواطنيها دون النظر إلى جنس أو عرق أو لون.
فالمعادلة واضحة وإن كان الأخذ بها من السّهل الممتنع، فمثلما أن إختلال التوازن المُحكم في نظام الطبيعة يؤدي إلى إنهيار منظومة البيئة والمناخ وضرر وكوارث لا تنتهي، كذلك فالتوازن والتكافؤ والإعتراف التام بالآخر ضمن أي مجتمع هو "ضرورة بشرية" لأي إستقرار وتطور، من شأنها أن تضبط إيقاع العلاقات بين المكونات والشرائح وتمنع إنزلاقها إلى دوامة القتل بهدف الحفاظ على الوجود والبقاء.
فلا مهرب من العمل على تخفيف سطوة القديسين والشياطين معاً والركون إلى طبيعتنا الإنسانية الصّرفة، هذه الطبيعة التي تعترف وتحترم إختلافات الجميع تحت مضلة دولة راعية لجميع أبنائها، فإن وسيلة الحوار والتفاهم وحدها كفيلة ببناء المجتمعات وتقدمها فلا الجدران العازلة تعيش طويلاً – بحسب التجارب – ولا الصراعات الوجودية يمكن أن توفر حلولاً دائمة.
لا الشرق هو شرق الإرهاب ولا الغرب هو غرب القداسة، لكنّها " الدولة " القادرة المنشودة التي تلغي علّة وجود أي ميليشيا، هذه الدولة لا زالت هشّةً ضحية منبوذة لا أب لها في هذا الشرق العالق بين الأرض والسماء، القابع في جحور شياطينه ومعارج قديسيه.
التعليقات