يبدو أن وتيرة المناهضة من جهة والاحتفاء من جهة ثانية ستشتد كلما تدحرجت عجلات الزمن واقترب الإقليم من يوم الإباء الكردستاني، كما أن حدة الاختلافات وربما الصدامات قد لا تخبو قبل ختام ذلك العرس التاريخي، لذا فإن حال الكثير منا يشبه حال مَن يُساق إلى المحاكمة، وحيث تكون ذاكرة المساق في أنشط مراحلها، إذ تُعيد له المناسبة عشرات القصص والمحطات والمواقف في شريط الذاكرة قبل المثول أمام المنصة القضائية، وهي تدفعه إلى المقارنة بين الذاهبات والآيبات، وإلى العلاقة القوية بين انفلاقات الغابر وشروخ الحاضر، وكيف أن المرويات كثيراً ما تعزّز الإيمان بأن الماضي كثيراً ما يُعاد مثوله أمامنا ولو بأشكال مغايرة، خاصةً تلك التي قد تزرع الأمل في أرجاء المعنيّ من ناحية، أو تعيّشه إلى حين في ظروف قلقٍ خانق.
لذلك فإن منثورات السابقين كثيراً ما تضيء الدروب أمام المعني بما يجري أمامه، أو تساعده تلك الرؤى والأفكار على فهم الأحداث الراهنة بشكلٍ أفضل، ومن تلك الوقفات الجميلة ما ذكره الشيخ عبدالقادر الجيلاني في واحدة من عظاته وحيث يقول الجيلاني: "اشترى رجل مملوكاً وكان ذلك المملوك حسب الجيلاني من أهل الدين والصلاح، فقال له: يا مملوك إيش تريد أن تأكل؟ فقال المملوك ما تطعمني، فقال له: ما الذي تريد أن تلبس؟ قال ما تلبسني، فقال: أين تريد أن تقعد في داري؟ فقال: موضع ما تقعدني، فقال له: ما الذي تحب أن تعمل من الأشغال؟ فقال: ما تأمرني، فبكى الرجل وقال طوبى لي لو كنت مع ربي عز وجل كما أنت معي، فقال المملوك: يا سيدي وهل للعبد مع سيده إرادة أو اختيار؟ فقال المالكُ عندئذ للملوك: أنت حرٌ لوجه الله".
ومن شبه المؤكد أن كل من يقرأ الحوارَ ويقارن وضع المتحاورين في القصة مع وضع الكرد ومن تسيدوا عليهم منذ مئات السنين، ستظهر له المقاربة بأنه ما من مالكٍ زمام الكردِ وصل من الناحية الإنسانية إلى مستوى ذلك المالك الذي ذكره الجيلاني، بالرغم من أن الكثير من الكرد أحبوا المكوث أمام أسيادهم من الأقوام الأخرى كمملوكين صاغرين، كما أنه من خلال قراءة القصة ومقارنتها بالواقع القائم سيرى كل قارئ بأن المالك كان كريماً جداً مع المملوك لذا أعتقه لقاء قناعته وتزهده ومثوله التام أمام سيده، ولكن إذا ما قاربنا حالة المملوك مع حالة الشعب الكردي الذي قِبلَ بالقليل ولبد طويلاً على عتبة أسياده من الأقوام الذين تحكموا به ولا يزالون فماذا كانت النتيجة؟ فهل فلح الكردي في أية بقعة من أرضه كما فلح مملوك الجيلاني؟ أم أن العكس تماماً هو الذي جرى ويجري، حيث وبدلاً من وهب الحرية للمملوك الكردي، استساغ المالكُ المضي قدماً في تمسيخ هويته وإذلاله رغم خضوعه التام لحكم وسلطان أخ الدين، بل وكانت نتيجة ذلك الخنوع تدمير أربعة آلاف قرية بما فيها من مقابر ومساجد وينابيع ومدارس، وأنفلة عشرات الآلاف من البارزانيين والفيليين، كما تم تجريب الكيماوي عليهم، وهُجّر مئات الآلاف منهم، وآخر فصول كرد العراق مع ملاكي الحكومة المركزية هو محاولة نسف الهوية القومية للكرد من خلال منظمة إرهابية مكونة من حثالات الفكر البشري، والتي لا تزال جرائمها ماثلة للعيان ولم يشفى المجتمع الكردستاني من تبعاتها، حيث سبيت المئات من نساء الكرد الأيزيديات وتم بيعهن ولازلن كجواري ما بين اخوة الدين في كلٍ من العراق وسوريا، فهذا إذن وبخلاف مملوك الكيلاني كان جزاء خضوع الكردي للآخر في العراق عبر الزمن.
أما في إيران وبعد الوعود الكاذبة لرهط الثورة الخمينية، وبعد قبول الكرد لقاء الإطاحة بالشاه بأقل مما يستحقونه من الحقوق، فسرعان ما انقلب الثوار الاسلاميون على الكرد بعد التخلص من حكم الشاه وإقامة جمهوريتهم الإسلامية عام 1979 إذ لم تتح للكرد فيها حتى الفرصة للمشاركة في كتابة الدستور الجديد للبلاد، ومنع أزلام الخميني زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني في إيران الدكتور عبدالرحمن قاسملو من المشاركة في كتابة ذلك الدستور، بل وكمكافأة لتبعية الكرد وخضوعهم، قام الجيش الإيراني عام 1980 بحملة تمشيط واسعة في عموم المناطق الكردية وخاصة في مدن مهاباد وسنندج وباوه ومريوان، وقامت المخابرات الإيرانية بقتل قاسملو وشرف كندي، كما قامت القوات الحكومة بتدمير ما يقارب 271 قرية كردية، ولا تزال الحكومة الإسلامية في إيران تعدم النشطاء الكرد يومياً بدلاً من وهبهم الحرية على غرار مملوك الجيلاني.
وفيما يتعلق بالكرد السوريين الذين بقوا مأخوذين بالوعود والتسويفات وظلوا منساقين مع إيقاع الشعارات الوطنية، وبناءً على سجيتهم القائمة على تصديق كل ما يقال لهم من قبل الشركاء المفترضين، فمعلومٌ أنهم ساهموا في مقارعة الاستعمار الفرنسي وصناعة الاستقلال بكل ما يمتلكون من الطاقات البشرية، وكان منهم سليمان الحلبي قاتل الجنرال كليبر في مصر، ويوسف العظمة بطل معركة ميسلون، وإبراهيم هنانو، محو ايبو شاشو، احمد بارافي، احمد الملا، إبراهيم الشيخاني، علي آغا بن زلفو، علي بوظو،،خليل بكر ظاظا، قدري جميل باشا، أديب الشيشكلي، خالد البرازي، نجيب آغا البرازي، خير الدين الزركلي وغيرهم من أبطال الثورة السورية الكبرى في 1926م، وكانوا بحق من صانعي استقلال سورية الحديثة، إلا أن جزاء الكرد وقبولهم الخضوع لحكم الأخ بدون أية ضماناتٍ قانونية أو دولية، كان تجريد عشرات الآلاف منهم من الجنسية السورية، ومن ثم انتزاع الملكية من الآلاف منهم، وكذلك تعريب المناطق الكردية، وفوقها تطبيق مشروع الحزام العربي العنصري بحقهم على الحدود السورية التركية!
أما في تركيا الحديثة فحدّث ولا حرج، حيث أن الكرد الذين فلحوا في تمثل دور المملوكين فترة طويلة من الزمان، من خلال استغبائهم بالقصص الدينية قرونا، ومن ثم انخداعهم بالشعارات العلمانية المعاصرة، ورغم طول رضوخهم للآخر لم يحصلوا على حريتهم كما هو حال مملوك الجيلاني، بل وكلما تنازل الكردي في تركيا عن هويته القومية زاد الطورانيون في خناقه وتهميشه وتمسيخه، ومع أن الكرد وإرضاءً للمالك راحوا يسمون أحزابهم بمسميات لا يُشم منها حتى روائح القومية كحزب الشعوب الديمقراطية، وتزيوا بشعارات هلامية إرضاءً للآخر، وفوق كل ذلك لم يرضى الفريق الطوراني في النظام، بل ولا يزال متمسك بذريعة حزب العمال الكردستاني منذ الثمانينيات لا يحييه ولا يميته، وذلك حتى يكون ذلك الحزب حجة دائمة في متناول الطورانيين حتى يضربوا المناطق الكردية بذريعته متى ما أرادوا ذلك، وحيث كان آخر تلك الفصول الدامية تدمير الجيش لكل من نصيبين وشرناخ وجزيرة بوطان وأجزاء من ديار بكر وكلها بذريعة محاربة حزب العمال الكردستاني، فهذا هو الجزاء المتواصل للكردي المملوك والذي لَبِدَ في ظل الآخر وبقي صاغراً يستجدي حق العيش منه!
عموماً فحتى إذا ما آمنا بحقيقة وليس بمجازية قصة الجيلاني، وأن تنازل وتزهد مملوكه قاداه فعلاً لنيل الحرية عن طيب خاطر من مالكه، فما الذي يتوقعه الكردي إذن من مالكه بعد كل تلك الفصول الدامية؟ وما هي الغاية المرجوة التي تجعل المملوك الكردي المعاصر قنوعاً وصاغراً؟ وهو لابد في أدنى منزلةٍ لدى جيرانه من مالكي زمامه، وما المبرر لدى بعض الأذلاء من الكرد ليُبقوا أزمتهم في أيدي أولئك الجيران الذين لم ينصفوا المملوك رغم كل خدماته الجليلة لهم، تارةً باسم الدين، وتارة أخرى باسم الوطنية والاشتراكية وما شابه من النظريات، ثم ما العبرة التاريخية لدى هؤلاء الكرد ليكونوا خافضي الجناح أمام من أصيبوا بالتكبر والنرجسية القومية حتى صار لديهم كل هذا الإصرار على أن يبقوا لابدين صاغرين إرضاء لمن يمتلكون زمامهم من خاقانات الدول الإقليمية؟
وفي الختام لعل موقف الرافضين من كرد العراق لمشروع الإباء كرمى إرضاء أسيادهم في طهران وبغداد، يذكرنا بما جاء في كتاب أخبار الحمقى والمغفلين لابن الجوزي عن الرجل الذي طلق زوجته لأنه لم يكن ليمتلك غيرها وكيف أنه من شدة غفلته راح يقلد من كان يرافقهم، إذ نُقل عن الأصمعي أنه قال: بأن "قوم من قريش خرجوا إلى أرضهم وخرج معهم رجل من بني غفار، فأصابهم ريحٌ يئسوا معها من الحياة ثم سلموا منها، فكرمى ذلك أعتق كل رجلٍ منهم مملوكاً، فقال ذلك الأعرابي: اللهم لا مملوك لي أعتقه ولكن امرأتي طالق لوجهك ثلاثاً"، فيبدو لنا أن هؤلاء الكرد الذين لم يمتلكوا شيء طوال القرون الماضية، فلا هويتهم معترف بها، ولا نالوا حريتهم يوماً على غرار مملوك الجيلاني لقاء مكوثهم قانتين، ولا يمتلكون اليوم إلا ما تمن عليهم بغداد وطهران من فتاتها، ولكن مع كل ذلك وإمعاناً في المضي قدُماً في غفلتهم ومن باب المحاكاة الخرقاء على غرار الأعرابي في قصة الأصمعي، فلديهم الاستعداد ربما للتنازل ليس عن حصتهم من الشموخ فحسب، إنما وحتى عما لم يكونوا ليمتلكونه يوماً من الأيام!
- آخر تحديث :
التعليقات