ميَّز الله الإنسان وكرَّمه بالعقل(ولقد كرَّمنا بني آدم), وأحسن خلقه(ولقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم), ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته(فإذا سويَّته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين), وفي الكتاب المقدَّس نجد الآية(فخلق الله الإنسان على صورته) ونجد ما يقابل هذه الآية في الإسلام في قوله عليه الصلاة والسلام: (خلق الله آدم على صورته), وأرسل الله الأنبياء بشرائع مختلفة وعقيدة واحدة من أجل هذا الإنسان, وفي هذا دلالةٌ قاطعة على محبة الله اللامتناهية لهذا الإنسان المخلوق الوحيد الذي اختاره واستخلفه في الأرض.
إنه ليبدو من الواضح من خلال هذه المميزات التيأعطاها الله لهذا الإنسان وشرَّفه بها, أن هذا الإنسان هو الغاية في هذه الأرض والدين هو الوسيلة التي يصل بها هذا الإنسان لخالقه ويعرف حقه بها, وقد يعتقد البعض أن هذا الرأي يتعارض مع قوله تعالى(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون), ولكن في الواقع أن هذه الآية ما هي إلا تأكيد من رب الأرباب على قيمة هذا الإنسان من خلال تذكيره بأن لا يغفل عن الغرض الرئيسي من وجوده الذي كان بأمره جلَّ جلاله, بالإضافة إلى الشرف العظيم الذي منحه الله لهذا الإنسان بأن جعله عبداً له سبحانه, حيث أن العبودية تكون هنا بمنزلة الشرف والعزة(حسب المفهوم الإسلامي), بينما نجد في المسيحية مفهوم(البنوَّة) يظهر واضحاً وجلياً في رسالة بولس إلى أهل غلاطية: (لأنكم جميعاً أبناء الله).
لذا فإن محاولة جعل الإنسان لا قيمة له إلا بالدين أو معاملته وفقاً لدينه ومذهبه, فإنها مخالفة لإرادة الخالق سبحانه, حتَّى الفلاسفة قادتهم الفطرة السليمة وروح التأمل إلى معرفة قيمة الإنسان وأنه هو الغاية, لذا كان اعتقاد الفيلسوف الألماني لودفيغ فويرباخ أن الإنسان هو مركز الدين وغايته, وفي الإسلام هناك ما يؤكد على ذلك, حيث أنه بذهاب عقل الإنسان فإن التكليف الشرعي يسقط عنه.
ولا أعلم لماذا لا يزال البعض يصر على محاولة إرشاد الآخرين لدينه من خلال إثارة موضوعات تسيء إلى الدين الآخر, معتقداً أنه بذلك سيهدم عقيدة مترسِّخة لدى أتباعها على مر العصور! ومعتقداً أيضاً أن خصومه من أتباع الدين الآخر لا يملكون الأدلة على تساؤلاته! حيث أنه لا يخفى على كل ذي عقل أن أتباع كل دين لديهم مجموعة من الأدلة العقلية والنقلية لكل شبهة أو تساؤل أو اعتراض يطرحه المعترض من الطرف الآخر, فإن استخدم المسلمون ما يسمى ب(الإعجاز العلمي في القرآن الكريم) فإن المسيحيين لديهم ما يسمى ب(اللاهوت الدفاعي) ولديهم أيضاً جوانب إعجازية في كتابهم المقدس, ولا شك في أن جميع الأديان تحوي جزءاً من العقلانية, وإلا لما وجدت من يقبل بها ويؤمن بمبادئها وتعاليمها, وجميع العلماء في هذه الأديان لديهم أعمال سعوا من خلالها لتطويع الفلسفة والمنطق لتتواءم مع رسالتهم وعقيدتهمالدينية, لذا نجد أن المناظرات والحوارات الدينية تنتهي دون فائدة, ولا فائدة تُرجى من ورائها, بل بالعكس تزداد الطائفية والكراهية بين أتباع هذه الأديان والمذاهب.
لو سألت المسلم أو غيره لماذا أنت مؤمن بدينك؟ ستختلف الأجوبة بحسب كل شخص وبيئته، فمنهم من سيقول لأنني ولدت في أسرة مسلمة أو مسيحية أو يهودية، والآخر سيقول لأنني مقتنع بأن هذا هو الدين الصحيح، وفي واقع الأمر فإن ذلك الإنسان الذي يجادل الآخرين من المؤمنين بدين آخر يختلف عن دينه أو من غير المؤمنين بالأديان عموماً, فإنه في حقيقة أمره غير مقتنع تماماً بكل ما ذكر, بل ويبحث عن الحقيقة عن طريق الجدل الديني. إن كل إنسان على وجه الأرض فُرِض عليه ما قد فُرِض، أو قل وجد نفسه أمام تلك الأفكار(الحقائق بالمفهوم الديني العقائدي), وقبلناها جميعاً لنكون متكيفين مع المجتمع، وحتَّى الذي لم يقبل بها فإنه لا يفرق عن الذي قبِلها من حيث الوصول للحقيقة الكاملة والواضحة التي ينشدها عقل الإنسان، الفرق بينهما أن الأول لديه مرونة وتكيُّف أكثر من الآخر الذي لم يحتمل الإيمان بأمور لم يقتنع بها بشكل أو بآخر،فنجد مثلاً بعض النصوص والأخبار في الكتب المقدسة غير واضحة تماماً، ويكتنفها أنواع شتَّى من الغموض. يقول الفيلسوف السوفسطائي بروتاجوراس: "فيما يخص الآلهة فإني غير قادر على قول شيء, لا أنهم موجودون, ولا أنهم غير موجودين, فعوامل كثيرة تحول دون هذه المعرفة, منها غموض الموضوع".
إن مفهومي(الوضوح والغموض) هو الذي أنتج لنا جميع الاتجاهات والتيارات الفلسفية والدينية: الوجودية, اللاأدرية, اللادينية, الإيمان, الإلحاد...إلخ. وينقاد كل إنسان إلى أحد هذه الاتجاهات أو غيرها بحسب درجة الوضوح أو الغموض لديه, وهم يتفاوتون في ذلك, فما يُعد واضحاً لديك ليس بالضرورة أن يكون واضحاً لدى الآخرين!
لذا فإن من اختار بنفسه الدين الذي يطمئن إليه أو أي مذهب ديني أو فكري يراه متوافقاً مع الأيديولوجيا التي يتبنَّاها، لن يستطيع أي أحد ولا أي منطق أو أدلة عقلية أو نقلية أن تقنعه بما قد اقتنعت به أنت!
ينظر الإنسان المسلم إلى الإنسان المسيحي نظرة رحمة وهو يستحضر قوله تعالى(ومن يبتغِ غير الإسلام ديناً فلن يُقبل منه), وينظر الإنسان المسيحي إلى الإنسان المسلم نظرة رحمة وهو يستحضر الآية في كتابه المقدَّس(وليس بأحدٍ غيره الخلاص), نظرة إنسان قاصرة ومحدودة!
لكن العدالة والرحمة الإلهية فوق ذلك كله, تفوق أحكامنا وتصوراتنا البشرية.
دعها سماويةً تجري على قدرٍ
لا تفسدنَّها برأيٍ منك منكوسِ
ولو أدرك المنشغلون بالمناظرات الدينية أو المذهبية حقيقتين لكانوا قد أراحوا واستراحوا, الحقيقة الأولى أن الإنسان هو الغاية, والحقيقة الثانية أن الدين للوجدان, وكما هو معلوم أن الوجدان لا يخضع للغة المنطق. وإن من يتأمل في كل من الإسلام والمسيحية واليهودية، سيجد أن الجزء الأكبر من تعاليم تلك الأديان ينصب على إعطاء الأمل وتهدئة النفس في المصير المنتظر لكل إنسان، فمثلاً عندما يموت أحدٌ ما ستجد أن المسلم سيذهب ويتصدق عنه مستحضراً صور في مخيلته بأن تلك الصدقة ستكون نوراً على هذا الميت في قبره وستتنعَّم روحه، وكذلك المسيحي واليهودي وغيرهم سيقومون بنفس تلك الأعمال مع الاختلاف في العقائد والتصورات المتعددة لما بعد الموت من حياة أخرى وما يسبقها من جزاء، حيث نلاحظ أن الكثير من المفاهيم الدينية أتت من أجل تعزية هذا الإنسان المسكين الذي وجد أنواع شتَّى من المتناقضات على هذه الأرض، يريد أن ينطق هذا المسكين ولكن لا يعرف من أين يبدأ, وربما لا يعرف شيئاً على الإطلاق! فيستقر حيناً ويضطرب حيناً آخر، يؤمن أحياناً وربما يرفض أحايين كثيرة! يريد أن يكون كما هو، يقتنع عندما يكون مقتنع فعلياً وليس مجاملةً ومسايرةً للمجتمع والثقافة السائدة!
تبقى هذه هي الحياة, التغير من طبيعتها والتعقيد سمة أساسية لها, ويبقى الإنسان فيها يواكب تغيراتها ويواجه صعوباتها ويصارع أمواجها, يغلب ويُغلب, يعرف ويجهل, يقبل ويرفض, يحب ويكره, يفرح ويحزن, يظل كذلك حتَّى تأتي ساعة الرحيل فيستريح ذلك الجسم وتنتهي معركة الإنسان والحياة.
ورحم الله أبا العلاء المعري، فهم الحياة وأدرك حقيقتها، وكأنه رآها من كل أبعادها الزمانية والمكانية وعايش مختلف ظروفها، فأوجز ذلك في قوله:
تعبٌ كلها الحياة فما أعجبُ إلا من راغبٍ في ازدياد
إن حزناً في ساعة الموت أضعاف سروراً في ساعة الميلادِ
خُلِق الناس للبقاء فضلَّت أمةٌ يحسبونهم للنفادِ
إنما يُنقلون من دار أعمالٍ إلى دار شقوةٍ أو رشادِ
ضجعة الموت رقدةٌ يستريح الجسم فيها والعيش مثل السهادِ
أبنات الهديل أسعدن أو عدن قليل العزاء بالإسعادِ
التعليقات