لا شك بأن الإنسان يشعر بحاجة داخلية لدين ينبغي أن يؤمن به ويمارس طقوسه ويعوِّل عليه في مصيره بعد الموت، ونلاحظ هنا أمر في غاية الأهمية، وهو أن الوجدان والشعور هو الذي قاد الإنسان للاعتقاد بوجود إله وضرورة الإيمان بدين معين ينبغي أن يعبد الله ويتقرب إليه به، لأنه بالعقل وحده لن يصل الإنسان إلى ما ينشده من حقائق وخصوصاً الحقائق من هذا النوع، وهناك حديث نبوي يشير إلى ذلك، قوله صلى الله عليه وسلم: (البر ما سكنت إليه النفس واطمأن إليه القلب)، لذا فإن من يكتفي باستخدام عقله فقط ويعتمد عليه لوحده في القضايا الدينية سيظل في صراع ومعاناة، لأنه سلك الطريق الخاطئ في البحث، فطبيعة الأديان عموماً لا تنسجم ولا تتوافق مع طبيعة العقل في بعض قضاياها وموضوعات بحثها، وهذا هو ما دعا الفيلسوف جان جاك روسو إلى الاعتقاد بأن العقل يعادي ويرفض كل ما له علاقة بالدين والمسائل اللاهوتية، قد يأتي من يقول: هل هذا يعني أن الأديان خرافة طالما أن العقل يرفض الكثير من أفكارها؟ أقول: ليس بالضرورة كل ما يرفضه العقل أن يكون خرافة، فربما هناك مسائل يصعب على عقولنا تصورها أو إدراك كنهها، إما لأن العلم ما زال في طور البحث عنها، أو لأنها تعلو على مستوى عقولنا كبشر. فهناك نوع من التساؤلات لن يستطيع العقل أن يجد جواباً مقنعاً لها، من ذلك: لماذا يُولد إنسان وهو معاق بأي نوع من أنواع الإعاقة؟ أو لماذا يُصاب شخص مؤمن ومتدين بمرض السرطان ويظل يعاني ويتألم حتى تفيض روحه؟ رغم أنه قام بالصدقة وقام بالدعاء في جميع أوقات الاستجابة ولكن بلا فائدة!
لن يستطيع الإنسان من خلال العقل أن يجيب على تلك التساؤلات، ولن يقبل العقل التفسيرات الدينية.
فالحل بإختصار هو: القبول بحقيقة الحياة بكل ما فيها، وإدراك مسألة أن الدين للشعور والوجدان فقط، بمعنى أن أي محاولة لعقلنة الدين فهي حتماً ستبوء بالفشل. وأخيراً يجب علينا كبشر أن ندرك أنه لا يوجد ما يمكن أن يخفف آلامنا ويعالج مشكلاتنا سوى العلم رغم عجزه عن معالجة الكثير من المشكلات بمختلف أنواعها.
كذلك على مستوى العقائد والغيبيات، سنجد أن الوجدان هو من يجعلنا نقبل بها ونؤمن بصحتها دون وجود دليل ملموس أو مرئي أو مشاهد، سأضرب مثال لكي يتضح من خلاله كيف أن الوجدان هو ما ينسجم فقط مع الدين، المسلم يصدق ويؤمن ويعتقد بأن الله جلَّ جلاله يجلس فوق كرسي تحمله ثمانية من الملائكة، والمسيحي يعتقد أن الله واحد في الجوهر لكنه في نفس الوقت عبارة عن ثلاثة أقانيم، هذه الأقانيم هي أشبه ما يكون بوظائف مختلفة بحسب اعتقادهم، الوجدان هو الذي جعل كلاً من المسلم والمسيحي يذهب إلى رأي واعتقاد معين ويطمئن إليه، إن المنهج العقلي الذي يريد البعض أن يُحكِّم من خلاله صحة الأديان خاطئ، الدين للشعور والوجدان فقط، والوجدان يقبل كل ما يطمئن إليه حتى لو كان العقل
لا يقبله.
وإن الحديث عن الدين والشعور حتماً سيقودنا إلى الحديث عن الليبرالية كمنهج دنيوي، لأنه سيتبادر إلى ذهن الكثير أنه إذا كان الدين عامل أو مكوِّن يختص بالوجدان وتنميته وإشباعه، فهل هذا يعني أن الدين لا علاقة له بالقانون والسياسة والاقتصاد والحياة الاجتماعية؟
أقول: لا يمكن فصل الدين كلياً عن ثقافة أي مجتمع سواءً على المستوى السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي وغيرها، فالدين يُعد من أهم المصادر والعناصر التي تُشكِّل ثقافة كل مجتمع، كما أن الدين في مجتمعاتنا العربية يُعتبر هو المقياس والمعيار لمنظومة الأخلاق، بل إن البعض لا يزال يشترط على من يتقدم للزواج من ابنته أو أخته أن يكون متديِّناً! فالدين جزء لا يتجزأ من هوية الإنسان العربي حتَّى لوكان غير متديِّن، فالمشكلة ليست في الدين، وإنما تكمن المشكلة في عدم وضوح العلاقة بين الدين والحياة في عالمنا العربي، حيث أن عدم فهم أو إدراك العلاقة بين الدين والحياة هي التي سبَّبت الارتباك والحيرة للإنسان العربي، وهي التي نتج عنها تيارين متطرفين، تيار متشدِّد يدعو للإرهاب وإقصاء كل مخالف باسم الدين، وتيار يرفض فكرة الدين من الأساس، لذا فإنه عندما نؤمن ويؤمن المجتمع بأن الدين علاقة بين الفرد وخالقه فقط، حينها سيُحفظ للدين مكانته وقداسته، وسيكون الدين بذلك محمياً من اللصوص الذين يستخدمونه لأغراض دنيوية وتحقيق مصالح شخصية أو حزبية، فإقحام الدين في كل شيء ينتج عنه الفشل في كل شيء، فها هو حزب الإخوان يفشل في حكم مصر التي كان سيدمرها لو تمكَّن منها! ولا زلنا نرى مصائب وجرائم نظام ولاية الفقيه في إيران، لذا فإن الدواء الشافي لِما يعاني منه العالم العربي والإسلامي يكمن في شعار (الدين لله والوطن للجميع)، شعار منسجم مع الإنسانية والحياة بأبعادها المختلفة، شعار يكفل الكرامة والحرية للجميع، شعار يتبنَّاه كل من لم يتلطَّخ عقله بأفكار الكراهية والتطرف بشتَّى صوره، شعار يؤمن به كل من يحترم إنسانيته، وفي الوقت الذي نجد فيه هذه الجماعات الإرهابية تستخدم الدين كوسيلة لتحقيق أهداف سياسية، نجد أن الليبرالية تحترم الدين وتحميه من أمثال تلك الجماعات والأحزاب. إن المنهج الذي تنهجه تلك الجماعات وعلى رأسها جماعة الإخوان، منهج يسعى لتحويل الإسلام من دين يسمو بالإنسان روحياً ويهذب أخلاقه إلى منهج سياسي شيطاني يسلب من الإنسان روحانيته ومن المجتمع استقراره، وليس هناك عدو لتلك الجماعات سوى الليبرالية، حيث أن الليبرالية هي القادرة على إفشال مشاريعهم وأجنداتهم، لذا نجدهم يهاجمونها ليلاً ونهاراً بكل ما يستطيعون.
الليبرالية تحترم الدين وتحترم السلطة الدينية، وذلك من خلال تحديد الدور المحدَّد لهما، فيُصان الدين حينئذ وتُصان المؤسسة الدينية من دخول المتطفِّلين واللصوص. وإن كان ابن خلدون يرى أن الإنسان اجتماعي بطبعه، فإنه كذلك ليبرالي بطبعه، لكنه بعد أن يخضع لايديولوجيات متطرِّفة فإنه حينئذ يرى في الليبرالية كفراً وزندقة!
وفي تراثنا الديني نجد أن هناك موقف للرسول صلى الله عليه وسلم أراد من خلاله أن يجعل لأمته منهجاً واضحاً لا يعطي مجالاً للمتلاعبين والمنافقين في استخدام الدين للأغراض الدنيوية والسياسية منها على وجه التحديد، حيث قد مرَّ عليه السلام بقوم كانوا يقومون بتلقيح النخل، فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (لو لم تفعلوا لصلح)، وقد عملوا بقول الرسول عليه السلام، فخرج التمر رديئاً وغير صالح، فمرَّ بهم الرسول مرةً أخرى وقال لهم: ما لنخلكم؟ قالوا: يا رسول الله قلت لنا كذا وكذا، فقال عليه الصلاة والسلام: ( أنتم أعلم بأمور دنياكم).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (إنما بُعثت لأتمِّم مكارم الأخلاق) فيه دلالتان، الأولى: أنه عليه الصلاة والسلام لم يُبعث لتأسيس دولة، الدلالة الثانية: أن الإنسان بلا أخلاق لن يؤثِّر فيه دينه أو مذهبه، فالأخلاق هي من يُجسِّد صورة الإنسان على أرض الواقع، كما أن قيمة الإنسان تكون بذاته، ولا ينبغي أن نجعل قيمة الإنسان مرهونة بدينه أو مذهبه أو جنسيته أو عرقه، وهناك موقف للرسول صلى الله عليه وسلم يوضح ذلك ويؤكد على قيمة الإنسان، حيث قد مرَّت جنازة لأحد اليهود فوقف لها الرسول عليه الصلاة والسلام، فتعجَّب الصحابة من تصرفه! فقال لهم عليه الصلاة والسلام: (أليست نفساً!؟) أراد عليه السلام أن يُعلِّمنا ويبعث برسالة عظيمة مفادها أن قيمة الإنسان وكرامته تبقى ولا تزول بمجرَّد اختلاف الدين.
لذا فإنه عندما يدرك المجتمع قيمة الإنسان فإن السلام يعم في ذلك المجتمع وينمو ويزدهر، حيث لو تأملنا في العالم الغربي سنجد أن الإنسان هو المحور، لذا شاهدنا التقدم والنمو والازدهار في شتَّى المناحي، وفي العالم العربي الدين هو المحور والمقياس فشاهدنا ما نراه الآن متجسِّداً على أرض الواقع، وكما ذكرت سابقاً أن ليست المشكلة في الدين، المشكلة تكون عندما يُقحَم الدين في كل شيء، عندما يتحوَّل الدين من جانب روحي يسمو بالإنسان إلى جانب دنيوي يُستخدم لإقصاء الآخر والوصول عن طريقه لأهداف سياسية أو مادية، حينئذ يفقد الدين وظيفته الأساسية ويصبح وسيلة بيد شياطين الإنس يشكِّلونه كيفما يشاؤون!
وعلى هذا يمكن القول بأن الدين أتى لإشباع الإنسان روحياً وتنظيم حياته الداخلية، والليبرالية أتت لتنظيم حياة المجتمعات وتحديد شكل العلاقة بين الدولة ومواطنيها بمختلف أديانهم ومذاهبهم وأعراقهم.
- آخر تحديث :
التعليقات